خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 21 تشرين الثاني 2014م

Submitted on Thu, 29/10/2015 - 14:07
خُطبتا صلاة الجُمُعَة في 21 تشرين الثاني 2014م + (فيديو)

  موضوع الخطبتين:
- ما أكثر الآيات في كتاب الله عز وجلّ دالةٌ على أنّ اللهَ سُبحانه وتعالى جعل العقل في الإنسان دليلاً يدُلُّهُ ومُرشِداً يُرشدُهُ وأنّه سبحانه وتعالى يُحاسب الناس على قدرِ ما آتاهُم من عُقول..
- إرسال الأنبياء والرُّسُل جاء من أجل أن يُعمِل الإنسان عقله، جاء من أجل أن يتنبّه الإنسان، وأن يستيقِظ الراقِدُ، وأن يستفيق الغافِلُ من كبوتِهِ.
- وما وصلتْ أحوال المُسلمين في هذا الزمن إلى ما وصلت إليه إلّا لِما وقع بينهم من مُجادلةٍ كان الحاكِمُ فيها هو الرأيُّ والهوى ولم يكُن العقل.
- ما هي تلك الحُجّة على الإنسان بعد وفاة النبي ص وآله وسلّم وبعد وفاة من كان بعده من الأئمة عليهم السلام.
- كُلّ شيءٍ لا يقبلُهُ العقلُ البَشريّ لا يجوز أن يكون من شرع الله عز وجل..
- الذي وقع هو إيهامُ الناس بأنّ العقل هنا لا مجال له وأنّ الذي يجب أن يُتّبع هو ما يشتغلُ به فُلان وما يجهتدُ فيه فُلان، وماذا كانت نتيجةُ تلك الإجتهادات والآراء إلّا أنها كانت سبباً في قتل الناس، وفي هلاك الناس، وفي ذبح الناس، وفي استغلال الناس...
- قول العلّامة الشيخ سُليمان الأحمد قده (خلّوا العُقولَ تَجولُ في مِضمارِها...)
- الشر كُل الشر في أن يجعل أحدُنا عقلهُ تَبَعاً لرأي فُلان أو لهَوى فُلان أو لأمرِ فُلان..
- يُرَدَّ كلامُهُ الرسول والأئمة ليُعرض على القُرآن، فإن وافق القُرآن أُخِذَ به وإن لم يُوافِق القُرآن لم يُأخذ به أو تُرِكَ لأهلِهِ...
- إنّ الله عز وجل إذا حاسبَ الإنسان حاسَبَه على قَدرِ ما آتاه من العقل، لأنّ العَقل هو الذي يمنعُ الإنسان وهو الذي يصرفُهُ عن الشرّ إذا أراد..
- إنّ الإنسان خلقه الله تعالى على فِطرة، تلك الفِطرة هي التي تدُلُّهُ على الخير...
- ما ذنبُ تلك الفِطرَة، وما ذَنبُ ذلك العَقل حين ننبِذُهُ وحين نُلقيه خلف ظُهُورِنا ثم نَتّبِعُ رأيَ فُلانٍ أو رأيَ فلان على قاعدة أنّ هذا هو الذي يعلم وأنّ ما دونه من الناس لا يعلمُ شيئاً.!
-- المُسابقة والمُسارعة في قوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} و {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}...
-- في أي شيء نتنافس وإلى أي شيء نُسرع وفي أيّ شيءٍ نبذِلُ وُسعَنا..
-- ماذا نستطيع أن نحمل معنا إذا خرجنا من هذه الدُنيا؟!
-- جواب الرجل للإمام الحسن العسكري ع (بل الذي يُنقذُني والذي يُعلّمُني هو أحبُّ إليّ ممّن يُقدّمُ المال والدراهم والدنانير)
-- كيف يكون مَطلَبُنا بالجنة حقاً ونحن نُسارعُ في غير ما أمرنا الله عز وجل..
-- اللهُ عزّ وجلّ يأمُرُ الإنسان أن يكون مُسرعاً في نُصرَةِ أخيه، وليس أن يكون مُسرعاً في غِيبَةِ أخيه.
-- ماذا يأمر و اللهُ عزّ وجلّ الإنسان إذا أراد أن يبلُغَ تِلكَ الجَنّة التي يبحثُ عنها؟..
-- إنّما خُلق الإنسانُ ليكون خليفةً لله في أرضه، وكيف يكون خليفةً لله في أرضه؟!
-- أفننام ثم نسأل الله عز وجل أن يُبَلّغَنا منازل العُلماء ومنازل المُتهجّدين في ليلهم!!


  الخُطبة الأولى:

  في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم إشارةٌ إلى ما أوجبهُ تعالى من أن يعمِلَ الإنسان، ومن أن يتدبّر ومن أن يتفكّر، ومن أن ينظُرَ في حالهِ التي يكون عليها، وفي المَصير الذي سيؤول إليه.
ما أكثر الآيات في كتاب الله عز وجلّ {إنما يتذكر أولوا الألباب} {وما يتذكر أولوا الألباب} وكلماتٌ جاءت تدُلٌّ على وُجوب النظر ووجوب العقل {أفلا تعقِلون} {أفلا يعقِلون}.

  كُل هذه الآيات دالةٌ على أنّ اللهَ سُبحانه وتعالى جعل العقل في الإنسان دليلاً يدُلُّهُ ومُرشِداً يُرشدُهُ وأنّه سبحانه وتعالى يُحاسب الناس على قدرِ ما آتاهُم من عُقول، ويُحاسبُ الناس في الأمور الصغيرة البسيطة على قدر ما آتاهُم من العقل، لأنّ إرسال الأنبياء والرُّسُل جاء من أجل أن يُعمِل الإنسان عقله، جاء من أجل أن يتنبّه الإنسان، وأن يستيقِظ الراقِدُ، وأن يستفيق الغافِلُ من كبوتِهِ.

  وما وصلتْ أحوال المُسلمين في هذا الزمن إلى ما وصلت إليه إلّا لِما وقع بينهم من مُجادلةٍ كان الحاكِمُ فيها هو الرأيُّ والهوى ولم يكُن العقل، لو كان العقلُ حاكماً بين الناس فيما اختلفوا فيه ما وصلت الأمور إلى هذه الحال وما أصاب أُمّةً في الأرض من تراجُعٍ أو تخلُّفٍ أو تقصير إلّا لأنها غيّرت عقول الناس.

  حينَ يُغَيّبُ العقل، وحين يُقصى العقل، وحين يُصبِحُ الشرع أداةً بيد من يُفتي الناس على قاعدة أنّهُ أعلا منهم وأعلمُ وأخبرُ وأكثر بصيرةً. هل توقّف أحدنا عند هذه الحال وتذكّر أنّ الله سُبحانه وتعالى سيُحاسبه على قدر ما أتاه من العقل ولن يُحاسبه على قدر اتّباعِهِ لفلانٍ وفلانٍ من الناس.

  يقول الإمام الصادق عليه السلام إنّما يُدَقُّ الله عز وجل الناس يوم القيامة على قدر ما أتاهم من العقول وأنّ حُجّة الله على العِباد هي الأنبياء، ولكنّ الحُجّة فيما بين الله عز وجل وفيما بين العباد هي العقول، وأنّ في كُلّ زمنٍ لله عز وجل له حُجّةٌ لا يستطيعُ أحدٌ إنكارها.
فما هي تلك الحُجّة التي إذا سألتَ عنها اليوم بعد وفاة النبي ص وآله وسلّم وبعد وفاة من كان بعده من الأئمة عليهم السلام. ما هي الحُجّةُ اليوم ؟

  سُئِلَ الإمام الرضا عليه السلام ما هي الحُجّةُ على الخَلقِ اليوم؟ قال: (العقل، تعرِفُ به الصادق على الله فتُصَدِّقُه، وتعرفُ به الكاذبَ على الله فتُكذبُه، العقل الذي منحه الله سبحانه وتعالى للإنسان هو الذي يستطيع أن يُميّز به الخير ويستطيعُ أن يستدلّ به على طريق الهُدى).
لذلك فإنَّ كُلّ شيءٍ لا يقبلُهُ العقلُ البَشريّ لا يجوز أن يكون من شرع الله عز وجل، لأنّ الله سُبحانه وتعالى أكرمُ من أن يَخلُقَ إنساناً ثم يُحاسبُ ذلك الإنسان على شيء لم يتمكّن ذلك المخلوق منه، ولم يكن من الأشياء التي يملكها.

  لكن الذي وقع هو إيهامُ الناس بأنّ العقل هنا لا مجال له وأنّ الذي يجب أن يُتّبع هو ما يشتغلُ به فُلان وما يجهتدُ فيه فُلان، وماذا كانت نتيجةُ تلك الإجتهادات والآراء إلّا أنها كانت سبباً في قتل الناس، وكانت سبباً في هلاك الناس، وكانت سبباً في ذبح الناس، وكانت بعد هذا وقبل هذا سبباً في استغلال الناس، وسبباً في سلب أموالهم وسبباً في إلغاء عُقولهم، وبدعوى أنّ المعرفة وأنّ العِلمَ صار شيئاً يستطيعُ فُلانٌ أو فُلانٌ من الناس أن يحتكره وأن يحتفظ به فليس عند غيره شيءٌ من الهُدى.

  نبّهَ على هذا الأمر كثيرٌ من العُلماء ومن الأدباء ومن المُفكّرين، والذي أشار إليه غيرَ مرّة من شيوخِنا ومن أعلامنا هو العلّامة الشيخ سُليمان الأحمد رحمة الله تعالى ورُضوانُهُ عليه حين قال في ابيات له: (خلّوا العُقولَ تَجولُ في مِضمارِها   فالشرُّ كُلُّ الشَرّ في التضييقِ)
من قوله:

أين العظيم بنا فنَحْذُوَ حَذوَهُ   هيهاتَ وَلَّت أعْصُرُ التَمليقِ
مَن يستحِقُّ هَضَمْتُمُ من فَضلِهِ   ونَسَبتُمُ للفَضْلِ غَيْرَ حَقيقي
واهاً لكُم كُلُّ الأنامِ تيقّظوا   إلّاكُمُ فالشرقُ غيرُ مُفيقِ
خلّوا العُقول تجول في مَضمارها   فالشرُّ كُلُّ الشَرِّ في التضييقِ

  الشر كل الشر في أن يُضيّق أحدُنا على نفسه ما وسّعه الله عز وجل عليه؟!!
الشر كُل الشر في أن يجعل أحدُنا عقلهُ تَبَعاً لرأي فُلان أو لهَوى فُلان أو لأمرِ فُلان ، مع أنّ الله سُبحانه وتعالى سيُحاسِبُ كُلّاً مِنا على قَدْرِ ما آتاهُ من العَقل، إنّهُ بما آتاه من العقل يستطيعُ أن يُمَيّز الباطِلَ من الحق، ويستطيعُ أن يُفرّق بين الخير والشرّ، ويستطيعُ أن يعرف الغَثَّ من الثمين، وليس بما يسمعُهُ حتى يعرِضَهُ على العقل.

  لقد جاء في كثيرٍ من أحاديث رسول الله ص وآله وسلّم ما أوجب به أن يُعرَضَ كلامُهُ على كِتاب الله عز وجل لأنّ ذلك الكتاب وحيٌ من الله سبحانه وتعالى وهو المصدر الأول والأخير في معرفة ما أراد الله سُبحانه وتعالى من خَلقِه. جاء في كثير من أحاديث رسول الله ص وآله وسلم
وفي الأئمّة من أهل البيت ما يأمرون به بأن يُرَدَّ كلامُهُم ليُعرض على القُرآن، فإن وافق القُرآن أُخِذَ به وإن لم يُوافِق القُرآن لم يُأخذ به أو تُرِكَ لأهلِهِ، لأنّهُ كثيراً ما يكون من الأمور التي دُسّت ووُضِعَت من أجلِ مصالحَ ومن أجل مَنافِعَ أرادها فُلانٌ أو فلان.
(إذا جاءكُم عنّي شيءٌ بخلاف القُرآن فإنّ الذي قاله أولى به) إلى أحاديث شتّى وإلى أحاديث كثيرة تدُلّ على وُجوبِ أن يُعرض قولُ رسول الله وقول الأئمة من أهل بيته على كِتاب الله.

  إذا كان رسول الله ص وآله وسلم وهو له ما له من المَكانة ومن المَنزلة ومن العَظَمَة يأمُرُ بأن يُعرض الكلام الذي يأتيك، أن تعرِضَهُ على كتاب الله عز وجل لئلا تكون ممّن ينسِبُ إليه ما لا يَليقُ به وما لا يصِحُّ عنه، فكيف إذا كانت الحال فيمن هو دون رسول الله وفيمن هو دون الأئمّة من أهل بيته، لماذا لا يُحملُ ذلك الكلام ثم يُعرَضُ على كتاب الله عز وجل، ليتبيّن الإنسانُ حينئذٍ عمّن يأخُذ ومِمّن يأخُذ وعمّن يسمع، بالعقل الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى للعِباد يستطيع الإنسان أن يَعرف الحديث الذي وُضِعَ وضعاً، والكلمة التي وُضِعَت وَضعاً، والأمرَ الذي وُضِعَ وَضعاً.

  الذي يذهب بالإنسان مكان أن يَرتقي به إلى إنسانيته صار يذهب به إلى أن يَنحَطّ إلى بَهيميّته، وصار يُسلّطُ فُلاناً على فُلان بدعوى أنّ هذا من الأمور التي لا مَجال للعقل أن يَعمل فيها. لذلك نبّهَ كثيرٌ من عُلمائنا كما ذكرنا على هذا الأمر.

يقول الشيخ ابراهيم سعّود رحمه الله:

هيهاتَ أُلزِمُ نفسي أقوالَ كُلِّ فَقيهِ   ما لا يَصِحُّ بعقلي فلستُ آخُذُ فيهِ

  وذلك أنّ الله عز وجل إذا حاسبَ الإنسان حاسَبَه على قَدرِ ما آتاه من العقل، لأنّ العَقل هو الذي يمنعُ الإنسان وهو الذي يصرفه عن الشرّ إذا أراد، ومن كان ممّن يفعل الشرّ فإنّ عقله هُنا لا بُدّ بين أمرين: إمّا أنّه أقصاهُ وغيّبه ولم يَلتفت إليه، وإمّا أنّه غالطه فيما أمره به ونبّههُ عنه ثم ذهب إلى الأمر الذي تُحبّهُ نفسه وإلى الأمر الذي تهواه.

  ما من إنسانٍ صغيراً كان أو كبيراً سيُسألُ عن شيء لم يكُن ممنوحاً له، وما من مخلوقٍ سيُحاسبُ على شيءٍ لا يملِكُهُ، حتى من أراد أن يحتجّ بحالةِ فُلانٍ أو فُلان فإنّ الله عز وجلّ يقول { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة (134) لا يُسألُ الإنسان عمّا كان يعملُ فُلانٌ أو فلان، إنّما يُسألُ في زمنه، الحُجّةُ التي جعلها الله عليه هي العقلُ الذي لا يَحرم الله عز وجل أحداً منه إلّا كان كما تَرَوْنَ هائماً على وجهه.

  أمّا من يعرف أنّ الله سبحانه وتعالى وهبَ له عقلاً وأمرهُ أن يعرض كُلَّ شيءٍ على ذلك العقل فإنّه حين يُغيّبُ عقله، وحين يذهب ليُقصِيَ عقلهُ لا تكون الحُجّةُ على الله عز وجل إنّما تكون الحُجّةُ على الإنسان.

  هل بقيَ شيءٌ لم يُؤمَر به؟ وهل بقيَ شيءٌ لم يُنهَ عنه؟ ما بقيَ شيءٌ إلّا أمر الله تعالى به وبَيَّنَهُ، وما بقيَ شيءٌ إلّا حَدَّدَهُ الله عز وجل ونَهى عنهُ إن كان من الحرام وإن كان من الحلال، فإذاً كُلُّ إنسانٍ من الواجِبِ عليه أن يَرجِعَ إلى الحُجّةِ التي يحتجّ الله تعالى بها عليه وهي عقلهُ.
فإنّ الإنسان خلقه الله تعالى على فِطرة، تلك الفِطرة هي التي تدُلُّهُ على الخير، قد تدلّهُ في بعض المواضع مع عَدَم إحاطتهِ بتفصيل ذلك الأمر عِلماً وبَياناً لكنها مع ذلك لا تدُلُّهُ فِطرتُهُ إلّا إلى شيءٍ صحيح ولا تسلُكُ به إلّا طريق الخير، وإلاّ طريق الفضل، وإلّا طريق الرّشاد، لكن ما ذنبُ تلك الفِطرَة، وما ذَنبُ ذلك العَقل حين ننبِذُهُ وحين نُلقيه خلف ظُهُورِنا ثم نَتّبِعُ رأيَ فُلانٍ أو رأيَ فلان على قاعدة أنّ هذا هو الذي يعلم وأنّ ما دونه من الناس لا يعلمُ شيئاً.!

  هل يجدُ أحدُنا في هذا نَجاةً ؟
هل سيُحاسبُ أحدُنا على عملِ فُلانِ أم على عملهِ؟!
كُلُّنا يعلم أنّه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} وكُلّنا يعلم أنّ الله عز وجل إذا حاسبَ الإنسان حاسبه بمقدار ما أعطاه، فليجتهد كُلٌّ مِنّا في أن يُرضِيَ الحُجّةَ التي سوف يحتجُّ اللهُ تعالى بها عليه وهي عقلُهُ، وليكُن العقلُ مُقدّماً على كُلّ شيء وذلك أنّ بالعقل وحده يستطيعُ الإنسان أن يحكُمَ على صِحّةِ شيء وعلى بِطلانِهِ وليس بما يُنقلُ إليه، لأنّ الذي يُنقلُ إليه يحتمِلُ الصِدقَ ويحتملُ الكذب، ولكنّ العقل هنا هو الذي يُميّزُ بين هذه الأشياء.

  نسأل الله سُبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ....

  الخُطبة الثانية:

  قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} وقال في موضعٍ آخر {سَابِقُوا} هذه الكلمة تدُلُّ كما يعلمُ كُلُّ من سمعها عن الإجتهاد في الشيء وعلى بذل الوُسعِ في الشيء.
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}
وهناك {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا}

  المُسابقةُ والمُسارعةُ إلى الأمر تعني تفضيلهُ على غيره، وتعني أن يكون التعبُ، وأن يكون الإجتهاد، وأن يكون العمل فيه إذا نظر أحدُنا في ما يقومُ به.

  كُلٌّ مِنّا يُحاول أن يكون له شيءٌ يُميّزهُ من غير.
الذي يعملُ تاجراً يُسارع ويُسابق ويُنافس من أجل أن يضمَنَ عملاً كثيراً ومالاً كثيراً ورِبحاً كثيراً.
الذي يعملُ في الكتابة يجتهد أن يكتب شعراً جيّداً وأن يكتُبَ قِصة جيّدة، فهو يُسارع وهو يُنافس غيره في هذا الباب.
هذا الأمر يُقاسُ به كُلّ شيء من العامل ومن الفلّاح ومن الطبيب ومن المُهندس ومن جميع طبقات المُجتمع. كُلّ الناس تسعى وكُل الناس تُنافس وإن لم تكُن تلك المُنافسةُ ظاهرةً .

  الذي يجب أن ننظُر فيه والذي يجب أن نتدبّر ويجب أن نتأمّلهُ أننا في أي شيء نتنافس وإلى أي شيء نُسرع وفي أيّ شيءٍ نبذِلُ وُسعَنا.

  هل نبذِلُ وُسعَنا في شيءٍ باقٍ بين أيدينا؟
هل نبذِلُ وُسعَنا في شيءٍ يستطيعُ أن يجعلنا من الخالدين؟
هل نبذِلُ وُسعَنا وطاقتنا ونُنفِقُ مالَنا ونُتعِبُ أجسادنا في أشياء نستطيعُ أن نحملها معنا متى خرجنا من هذه الدُنيا؟
إنَّ أحدنا إذا انتقل من بيتِهِ إلى بيتٍ آخر لم يترك في بيته الذي انتقل عنه شيئاً، جمع كُلّ شيء وحمله معه إلى بيته الذي انتقل إليه، ولكن ماذا نستطيع أن نحمل معنا إذا خرجنا من هذه الدُنيا؟!
هل نستطيع أن نحمل معنا مالاً؟!
هل نستطيع أن نحمل معنا جاهاً؟!
هل نستطيع أن نحمل معنا ما نحن ننتفعُ به في هذه الدُنيا؟!

  جاء في تفسير الإمام الحسن العَسكريّ عليه السلام من كلامه قوله لرجُلٍ: أيُّهُما أحَبُّ إليك، صديقٌ كُلّما رآك أعطاك بعض الدراهِمِ والدَنانير، أو صديقٌ كُلما رآك استنقذك من الجهل الذي أنت فيه أو علّمك عِلماً أو دلّك على خير؟
قال ذلك الرجل: بل الذي يُنقذُني والذي يُعلّمُني هو أحبُّ إليّ ممّن يُقدّمُ المال والدراهم والدنانير.

  لو سُئِلَ أحدُنا عن مِثل هذا لقال أكثرُنا أحبُّ إليَّ أن أجِدَ من يُعطيني بعض الدراهم والدنانير! لو سُئِلَ أكثرُنا لهكذا كان جوابُه.
أن نجد من يُعطينا بعض الدراهم والدنانير هو أحبُّ إلينا ممّن يُعطينا شيئاً غير هذا!

  الذي يبحث عنه الإنسان والذي يسعى إليه هو منزلٌ لا تُصيبُهُ فيه الآفات، هو منزلٌ لا يكون فيه جائعاً ولا مُحتاجاً إلى أحدٍ ولا فقيراً، وكُلّنا يرغبُ ويسألُ ويتمنّى ويُحِبّ أن يكون مصيره بعد موتِهِ إلى ذلك المنزل، ألا وهو الجنّة التي وَعَدَ اللهُ عز وجل بها عِباده الصالحين، ولكن يقول الله تعالى { وَسَارِعُوا } ويأمر الله عز وجل بالتنافس في هذا، ولا يأمُرُ بالتنافس فيما لا ينفعُ صاحبهُ، يأمُرُهُ عزّ وجل أن يبذِلَ وِسْعَهُ من أجلِ أن يكون له حَقٌّ في ذلك المنزل وفي تلك الجنّة التي يطلُبُها.

  فكيف يرجو أحدنا بعدما أمر الله عز وجل بقوله {وَسَارِعُوا} وبعدما حَرَّضَ وحَضَّ بالتسابُقِ إلى ذلك الأمر، كيف يكون مَطلَبُنا حقاً ونحن نُسارعُ في غير ما أمرنا الله عز وجل!!!
إنّ أحدنا يُسارعُ إلى أذى أخيه، وإنّ أحدنا يُسارعُ إلى غِيبَةِ أخيه!!!
وإنّ أحدنا يُسارعُ إلى أشياء من هذا القَبيل أكثَرَ ممّا يُسارعُ إلى طاعة الله عز وجل!!!
وإنّ كثيراً مِنّا ليحفظون من عيوب الناس ومن عثرات الناس أكثر ممّا يحفظون من كتاب الله عز وجل!!
وإنّ كثيراً مِنّا ليعلمون من تَوافِهِ الأخبار ما لا يعلمون من أخبار رسول الله ولا من سِيرة رسول الله ولا من سيرة الأئمة من بعده!!!

  إنّ كثيراً مِنّا يحمِلُ ويستطيعُ أن يحمل في قلبه من الكلام الفارغ الذي لا قيمة له أضعاف أضعاف ما يستطيع، أو ما لا يُريد أن يحمل من كلام الله ولا من كلام رسول الله، إذا كان يُريد أن يَقتَدِيَ بالإمام الذي يُنسبُ إليه فعليه أن يكون في أفعاله وفي أخلاقه شيءٌ من أدب ذلك الإمام ومن سُلوك ذلك الإمام.

  اللهُ عزّ وجلّ يأمُرُ بالمُسارعةِ إلى عمل الخير، ولا يأمرُ بالمُسارعة إلى عمل الشرّ.

  اللهُ عزّ وجلّ يأمُرُ الإنسان أن يكون مُسرعاً في نُصرَةِ أخيه، وليس أن يكون مُسرعاً في غِيبَةِ أخيه.

  و اللهُ عزّ وجلّ يأمُرُ الإنسان إذا أراد أن يبلُغَ تِلكَ الجَنّة التي يبحثُ عنها هو أن يكون عاملاً وأن يكون مُجتهداً {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}، أن يسألَ الله عز وجل أن يغفر له من ذُنُوبه تلك التي لا يزالُ يُعيدُها والتي لا يزالُ يفعلُها، وهل يكون الإستغفار مع إعادة الذَنب مقبولاً عند الله عز وجل؟!!
بلى هذا إنّما هو (ذنوبٌ مُجَدَّدَة) كما جاء في حديث الإمام الحَسَن عليه السلام.
(الإستغفارُ مع الإصرار ذنوبٌ مُجَدَّدَة) بلى ذنوبٌ مُجَدَّدَة لأنّ الله عز وجل غنيٌّ عن أعمال خَلقِه، وما خلق الإنسان وما جعله في هذه الأرض إلّا ليكون إنساناً، ما خلقهُ من أجل أن يقتُلَ أخاه وما خلقهُ من أجل أن يبتزّ أخاه، إنّما خلقه ليكون خليفةً لله في أرضه، وكيف يكون خليفةً لله في أرضه إن لم يكُن عادلاً، وإن لم يكُن حَليماً، وإن لم يكُن حَكيماً، وإن لم يكُن يُفَضّلُ آخرتهُ على دُنياه؟!.

  كيف يرغبُ أحدُنا في الجنّةِ التي قال فيها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام (ألا وإنّي لا أرى كالجنة نامَ طالِبُها، ولا كالنار نام هاربُها)

  أفننام ثم نسأل الله عز وجل أن يُبَلّغَنا منازل المُتهجّدين في ليلهم!!
أننام ثم نسأل الله عز وجل أن يُبلّغنا منازلَ العُلماء؟!!

  رحم الله الذي قال:

عِلمي مَعي حيثُ ما يَمَّمْتُ يَنفعُني   قَلبي وِعاءٌ له لا بطنُ صُندوقي
إن كُنتُ في البَيتِ كان العِلمُ فيه مَعي   أو كُنتُ في السوق، كان العِلمُ في السوق

  الإنسان أيُّها الإخوة إنّما مُيِّزَ من غيره بما أعطاه الله عز وجل من العَقل، فإذا غَيَّبَ عقلَهُ، وغَلَّبَ هَواه على عقلِهِ فإنّهُ ساقطٌ من إنسانيّتِهِ راجعٌ إلى الحال التي كان عليها في الجاهلية قبلَ أن يبعَثَ اللهُ نبيّهُ، يأكُلُ القويُّ الضعيف، ويقطعُ صاحبُ الرَحِمِ رَحِمَهُ.

  نسأل الله عز وجل أن يكفِيَنا شَرَّ ما نحنُ فيه وأن يغفر لنا شرَّ ما نحن فاعلون، وأن يجعل قُلوبَنا من القُلوب التي تَرِقُّ حين تسمعُ المَواعِظ، ومن القُلوبِ التي تنوبُ وترجِعُ وتتوب إلى الله عز وجل كُلّما أحدثت ذنباً أو هَمَّت بمعصيةٍ توبةً تكون معها في وُضوان الله عز وجل طالبةً وسائلةً ومُتمنّيةً ومُتضرّعةً وعازمةً أن لا تعود إلى أمثال هذه الذُنُوب.....