التناقض الفاضح للمجذوب

أُضيف بتاريخ الأحد, 14/11/2010 - 17:00

ومن قرأ كتاب محمد المجذوب (الإسلام في مواجهة الباطنية) الذي ألّفه خصيصاً للطعن بالعلويين، وقرأ ما كتبه قبله في (مقدمة اليوبيل الذهبي) سيجد التناقض الكبير بينهما، وسيقع في حَيرة من أمره متسائلاً عن سبب هذا التناقض الفاضح وما الذي دعى إليه وعن العوامل والدوافع التي دعته إلى قَبضِ ما بَسطه ومَحْوِ ما أثبته ، فتارة يَمدح القوم وطوراً يذمّهم، فإن الشهادة بإيمان قومٍ ثم الإصرار على تكفيرهم أمرٌ يَدعو إلى التساؤل المُلِحّ عن معرفة السبب؟؟!!

إما أن يدلّ على اضطراب صاحبه وعدم استقراره أو وجود عامل ترغيبي استحوذ عليه، وهذا ليس بالأمر المُستغرب ونحن نعيش في عصر تسيطر به المادّة على الكثير من العقول.

فبينما هو في كتابه يستنكر بعض الفتاوى التي تنص على إسلام العلويين، تراه في مقالة أخرى نشرها في مجلة النهضة يطعن ببعض الفتاوى الأخرى التي صدرت بحق العلويين والتي تنصّ على تكفيرهم.

وسأستعرض هنا ما قاله هذا الكاتب بالعلويين مدحاً وقدحاً لينظر القارئ بإمعان إلى تفننه في المراوغة ويحكم بنفسه على أقواله:

♦ نلخص هنا ما قاله في مقدمة اليوبيل الذهبي للعلامة الكبير الشيخ سليمان الأحمد – رحمه الله - .

قال الأستاذ محمد مجذوب:

كان من شأن الإستقرار الذي أشرفت عليه النفوس في هذه المحافظة بعد عودتها إلى ذراعيّ الوطن الأم، أن فتح لها باب الإلتفات –قليلاً- عن العمل السياسي إلى التفكر في النواحي الحيوية الأخرى. مما يُهيّء المجتمع إلى التكامل الشامل الذي تقتضيه طبيعة العهد الجديد، وكان من فضيلة هذا الإلتفات تنبّه طائفة من مفكري هذه المحافظة إلى تكريم رجل كانت له يد لا تُنكر في إيقاظ المواهب العاملة، لإعداد هذا الجو القومي في جزء كبير من هذه الأرض وتهيئته لحياة الإندماج في وحدة إجتماعية قومية ما برحت هدف المخلصين ووسيلتهم إلى استعادة أمجاد هذه الأمة.

ذلك الرجل هو (الشيخ سليمان الأحمد) وأما هذه الطائفة الكريمة فحسبك أن تعرف أنّ على رأسها أحد بُناة هذه الوحدة ورمز عملها القومي في هذه المحافظة، ومن يكون صاحب هذا الإسم غير السيد "عبد الواحد هارون" .

هذه الكلمة قالها في "مقدّمة اليوبيل الذهبي" ولو تأملنا بتروّي للاحظنا مديحه الواضح للعلامة الشيخ سليمان الأحمد ووصفه هذه الطائفة (بالكريمة) مع مدحها بما يتنافى مع قوله السابق بأنّ العلامة أطلق عليها لفظ الروافض ووصفها بالجهل والإفتقار إلى الغير ..
وهل العلامة من غير هذه الطائفة التي ينعتها بهذا الوصف الذي سينطبق عليه بديهياً ؟!
سبحان الله وكأنّ هذا الكاتب نسيَ ما قاله سابقاً ليقول ما ينقضه أو أنه يظن القرّاء أغبياء لهذه الدرجة حتى تنطلي عليهم أكاذيبه المتكررة.

♦ ومما قاله أيضاً تحت عنوان (هذا الجبل العلوي) :

لا ريب أنّ القارئ مُدرك قليلاً أو كثيراً، من الأحداث التي تعاونت على توجيه الحياة في هذا الجبل إلى المستوى الذي انتهى إليه اليوم، وأنّ هذه الأحداث التي تفاوتت طوال قرون متتابعة – بين القوّة والضعف وبين اللين والقسوة كانت ذات تأثير بعيد في شكليّة اتصاله أحيانا وانقطاعه – أحيانا أخرى – عن سبيل الحياة العامة وما يقتضيه هذا الإنقطاع والإتصال من المشاركة بأسباب التأخر والتقدّم الفكري، ثم هذا الطراز البدوي من الحياة العشائرية ومدى مظاهرته هذه الأحداث على ذلك التوجيه في سائر مناحي حياته.

كان من شأن هذه العوامل الإستثنائية أن جعلت هذا الجبل أكثر حظاً من التأخر الذي طغى على الأقطار العربية طوال عهود التقهقر، وكان هذا التأخر عاماً يشمل كل شيء من مظاهر الحياة وخاصة الناحيتين الإجتماعية والدينية، حيث اتّسع المجال لتغلغل كثير من الأوهام والخرافات حتى أوشك أن يشل حركة المواهب الطبيعية في نفس الفرد بما حتّم عليه من الرضاء بالواقع ثم ائتلاف هذا الواقع بحيث لا يتطلع إلى تغييرها وتعديله إلا بمقدار ما يتصل من ذلك بضرورة الحياة.

أما الأدب والعلم فبديهي أن يستتبع شأنهما مصير الحياة العامة ولا سيما وهُما دائماً وفي كل مكان نتيجة الروح الإجتماعية ومظهرها المتكلم. ولذلك لبث الأدب ولبث العلم معه في هذه القرون مقصوراً على ترديد الموروث من آثارهما الماضية جامداً على ما تناوله منه في آخر عهده ويتخلص هذا الموروث من آثارهما الماضية جامداً على ما تناول منه في آخر عهده ويتخلص هذا الموروث في دائرة معيّنة من الشعر الديني أو التصوّفي وخصوصاً ما كان منه في مديح لأهل البيت كأشعار (المكزون) و (المنتجب) اللذين عاشا في بعض أوساط هذا الجبل أوائل عصور الإنحطاط.

ويلحق بهذه الناحية تلك المبادئ الضرورية ومن الفقه الشرعي الذي تتطلبه حاجة الشعب لديمومة الإتصال بالمذهب الذي ينتسب إليه، ثم في هذه الرسوم المتداولة بين بعض الخاصة من معارف في الفلك والتنجيم وما إليها مما يجد غذاءه الصالح – عادة – في مثل هذه البيئات الوجدانية.

وطبيعي أيضاً أن لا تتجاوز هذه الآثار الباقية، من الفقه والعلم والأدب على قلتها، طبقة محدودة من الشعب تنقطع إلى ممارستها والعناية بها وفقاً لطبيعة الظروف وما يتصل بها ويتظاهر على تأييدها من دوافع المصلحة العامة والخاصة.

وهكذا ترى إلى سيرة هذا الجبل، فقد اضطلعت طبقة الشيوخ فيه بتوارث هذه المآثر جيلاً عن جيل، فحفظت للشعب صلته الفكرية – ولو قليلاً – بالماضي إلى جانب الأخلاق والعوائد التي كانت رابطته الحيّة في سلسلة القومية العربية.

ولا ننسى فوق ذلك أثر (القرآن) في تغذية هذه العُرى، وهو التراث الذي سيطرت قدسيته على هذه النفس الجبلية مدى حياتها، ولكننا لا نستطيع إلا الإعتراف بأنه كان أثراً محدوداً في دائرة روحية صرف كشأنه في معظم الأصقاع الإسلامية التي جمدت على اجترار التقاليد، فلم تنفتح ملكاتها للإستفادة من خصائصه الفعالة في سير الحياة الدنيا.

ظلّت هذه الطبقة من الشيوخ مِقود الحركة في توجيه الجبل، وظلت على ذلك كله مركز للمحافظة المُطلقة، فلم تتعدّ وظيفتها حدود الدوران حول تركة الماضي، وتتردد بين الصعود والهبوط، ولكنه أشبه بتردد الكرة الأرضية بين مراكز الفصول، تنخفض لترتفع، ثم ترفع لتنخفض، وهي في ذلك وهذا لا تعدو دائرتها المخطوطة حول المركز.

على أنّ في الطبيعة سراً إلهياً يأبى على النفس الإنسانية جمود الأبد فهي حين تخلد إلى النوم إنما تفعل ذلك استجماماً ريثما تستعيد قدرتها على متابعة الحركة وكذلك شأن هذا السر في حياة الشعوب فإنك لتراها في مثل خمود الموت حتى لتكاد تنقطع عن سبيل العالم ولكنها مع ذلك لا تلبث أن تدغدغ أجفانها قوة الحياة فإذا هي عائدة سيرتها الأولى في سلسلة التاريخ، والفرق بين الحالتين:
نومة الفرد ونومة المجتمع الشعب إنما هو في الوقت وحده، فإذا قست غفلة الأولى ببعض الساعات المعدودة من الأيام، فهي عند الثانية مظهراً آخر من عمر الزمن كله.

إذن فقد حق لهذه الطبيعة أن تؤدي مهمتها في إيقاظ الجبل من سبات القرون وذلك ما كان. فقد ابتعثت حكمة الله رجالاً من أولئك الشيوخ قد انتهت إليهم مقاليد السلطان الروحي وامتدت بصائرهم النافذة إلى ما وراء حدود تلك الحياة المحصورة فإذا هم متوثبون إلى تجديدها تجديداً يتناول كل شيء وأننا لنرى هذه اليقظة على أشدّها في غضون القرن الأخير الذي نعيش في نهايته.

هذا ما قاله مدحاً وسيأتي ما ينقضه قدحاً وقبل الشروع في ذلك ننقل :

♦ ما قاله تحت عنوان (يوم البعث) :

كان هذا العصر أبرك الأيام في عمر الأمة العربية منذ بدأ الحكم التركي الأسود، بل كان مظهر النشور العام في جميع مرافق هذا الشعب الذي حرمت الإنسانية ثمرة حيويته العظمى في بناء الحياة طوال عدّة قرون، فقد جعلت رعشة الحياة تضطرب في أنحاء جسمه كلها من أقصى نجد، إلى أبعد حدود الجزيرة، لا تغادر كبيرة وصغيرة من مواهبه إلا وتمر عليها بأناملها الساحرة، وقد أخذ التجديد يعمل عمله في جوانب هذه الحياة جميعاً في الدين وفي القومية وفي الأدب، وفي كل شيء مسايراً في ذلك معايير الزمن، من ملابسة ظروف الحياة، ومسايرة التطور الإنساني العام.

وقد كان من حق هذا الجبل الذي نام نومته الطويلة مع هذا الجسم أن يعود إلى اليقظة مع هذا الجسم نفسه فينهض بقسطه الطبيعي من الواجب نحو الكيان الجديد حسبما تمكنه من ذلك عوامل بيئته الخاصة.

ليس من السهل إرجاع مطلع النهضة التي نتكلم عنها إلى شخص معيّن كمؤسس لها، وذلك لانعدام الآثار المكتوبة حولها، على إن المتداول لدى الثقات من الشيوخ إن في مقدّمة العاملين في تأسيسها (الشيخ ابراهيم مرهج) قرية "بعمرة" – صافيتا – وهو أحد (الشيوخ) الذين خلفوا للجبل ذرّية ممتازة من حملة العلم والأدب، كانت متمثلة ليوم قريب في حفيده العلامة المرحوم (الشيخ ابراهيم عبد اللطيف) معاصر اليوبيل ورفيقه المصطفى، ثم انتهت الآن إلى نجله الكريم (الشيخ عبد اللطيف ابراهيم) الأديب المعروف، فقد ساهمت هذه الأسرة ولا تزال، مساهمة بعيدة المدى في تأثيل هذه النهضة فأحيت الكثير مما اندرس من علوم الدين وايقظت الرغبات الكامنة في دراسة مبادئ العربية وآدابها، بمقدار ما تيسّر ويتيسّر من استعداد المحيط،   وكان قد سبق رأس هذه الأسرة مُصلحٌ آخر هو الشيخ (خليل معروف) الذي أنشأ "آل شمسين" بمساعيه أول مسجد في الجبل بقرية "الدريكيش" لم يلبس أن تلاه مسجد آخر، في "بيت الشيخ يونس" صافيتا، شيّده الإخوان مؤسسا هذه العائلة المرحومان ( الشيخ يونس ياسين) و (الشيخ غانم ياسين) جد الأستاذ (عبد اللطيف يونس) " أمين سر اللجنة" وأحد العاملين في إبراز هذا المشروع الذي ما فتئ دائب السهر عليه مفرّغاً وِسعَه في سبيل إنجاحه على أكمل وجه – وقد كانا مثلاً في الصلاح والتقوى حتى لكان أحدهما إذا غادر قريته مسافراً لا يتحرك إلا وفي صحبته (مؤذن) مع لوازم الصلاة ومن ثم جعلت المساجد تنشر في أنحاء الجبل وجعلت الشيوخ تتابع أفواجاً في تلكم السبيل.   نذكر منهم المرحوم (الشيخ عبد العال) أصل العائلة المشهورة باسمه (بين الحاج) ومُنشئ مسجدها المعروف، فقد كان من جملة أعماله المجيدة في تغذية هذه النهضة أن قذف أفعل سهم في صدر ذلك الجمود الذي عزل الجبل أحقاباً مديدة عن سبيل العالم، حين عمد إلى أداء فريضة (الحج) فأحيا بعمله المبرور أحد المعالم التي حالت بين الجبل وبينهما طويلاً تلك السلسلة القاهرة من الأحداث المتتالية.

ثم كان من تمام نعمة الله على (الجبل) ولاية المصلح المرحوم "ضيا باشا" الذي كان مُظهر التعدل الحكيم في سياسة الدولة العثمانية نحوه واتجاهها إلى محاولة الإستفادة منه كعضو في جسم الأمة توفر عليها محاسنه كثيراً من المشاق التي تعرّضت لها قبل بسبب سياستها الخاطئة .. فأكمل أسباب النهضة بما نشره في أطرافه من المدارس والمساجد التي نيّفت على الثمانين .

وفي هذا الجو الذي تتجمع في آفاقه عناصر الماضي وطلائع المستقبل لمع نجم جديد من نجوم الإصلاح الواسع ما لبث أن ملأ شعاعه سماء الجبل كلها من حدود (أمانوس) إلى أقصى وادي "النهر الكبير" .
ذلك هو أستاذنا الجليل صاحب " يوبيل اليوم، الشيخ سليمان الأحمد".

نكتفي بهذا القدر مما قاله في ''مقدمة اليوبل الذهبي'' لننتقل إلى ما قاله في ''مجلة النهضة'' ، العدد الأول في تشرين الثاني سنة 1937م، وليسهل علينا مقابلته مع ما يناقضه من أقواله في كتابه (الإسلام في مواجهة الباطنية) لكي يتبيّن للقارئ افتراء هذا الكاتب على هذه الطائفة بصورة لم يسبقه إليها أحد .

♦ قال تحت عنوان (زوايا التاريخ الإسلامي – السنة والشيعة ) :

لست في حاجة إلى استعراض الأسباب التاريخية في قسم الإسلام إلى فريقين شيعي وسني، ثم تحوّلت هذه الأسباب السياسية الصرفة، بشأن الحكم والخلافة، إلى أشكال مذهبية أفرغت على هذين الإسمين: العلوي والسني، الصفة الدينية ولا إلى الكلام عن مسالك الإجتهاد الفقهي بين الشيعة والسنة، ثم إلى تشعّب هذه المسالك بين الشيعة نفسها وبين السنة نفسها أيضاً، ولست في حاجة كذلك إلى ذكر ما لقيه هؤلاء الشيعة، على مدى العصور، من عذاب واضطهاد مستمر، في سبيل مبادئهم الفكرية، من إيثار ولاية أهل البيت، المبادئ التي تنهض على أسس معروفة من الإجتهاد والرأي، فكانت ذنبهم الأكبر في نظر مضطهديهم، وكان قيامهم عليها وتشبثهم بها، بدلاً من أن يكون داعياً لاحترامهم وتقدير ثباتهم، أبرز العوامل في إيذائهم ومطاردتهم ، طوال قرون اثني عشرة، ولا إلى القول:
بأن من الطبيعي أن ينتج مثل هذا العداء، من أحد الطرفين، عداء مثله من الطرف الآخر، ولكن، على شدّته، كان على شيء من الإعتدال، بالقياس إلى مقابله وما أدّى إليه، إبّان تدهور الإسلام في عهود الحكم التركي، من إدخاله في حيّز الدين، واستخدامه الشريعة المبرأة لدعمه، بما أصدره بعض المشايخ من فتاوي ضد بعض فرق الشيعة، كهؤلاء العلويين خاصة، يَندى لها جبين الإنصاف، ويضج من هولها كل فاهم حقيقة الإسلام وقيمة الإجتهاد، في نظر الشرع المُطَهّر الذي جعل تسعاً وتسعين دليلاً على كفر إنسان يردها دليل واحد على إيمانه، مما لا نزال نضرس من حصرمه، ونتخبّط في دياجيره حتى اليوم، ومما يُبرهن على أنّ هؤلاء الغارسين لم يكونوا ليحسنوا التفكير، فيما قد يثمر غراسهم في الغد، وإنهم لم يكونوا ليبالوا بحق أحفادهم من الأجيال التي عملوا على تسميم حياتها بهذه البذور، فهدموا بذلك حكمة الإسلام، من التبشير، واجتناب التنفير، ومزّقوا من جديد ما رتـّقه ثاني العمر بن عبد العزيز (رض) .

العقيدة الإسلامية في قلب العلوي :

أما الدين وقوّة العقيدة الإسلامية في هؤلاء الشيوخ فلا أذكر لك من مظاهرهما إلا شواهد ثلاثة فقط، وأترك لك بعدها الحكم على ما أقول.

أنت تعلم مبلغ ذلك الغرض الذي استهدفه الإستعمار، أثناء مرحلة الإنتداب، من محاولة التأثير على هذه العقيدة، وإظهار الطائفة العلوية بمظهر الإنفصال التام عن المجموع الإسلامي، وأنت تعلم كذلك مدى العنف في تلك الوسائل الإستعمارية، لتحقيق هذه الخطة، فاسمع إذاً بعض ما اعترض تلك المؤامرة من قوّة الدفاع عن هذه العقيدة:

» دعا ذات يوم أحد ضباط الإستخبارات الشيخ محسن حرفوش، وكان قاضي المذهبية في جبلة، وجعل يجادله في أمر صلاة الجمعة، يريد أن يمنعه من إقامتها في مسجد السنيين باعتبار أنه غير مسلم في نظرهم، فما كان جواب الشيخ؟
لقد قال للضابط:
إنّ إلهنا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا القرآن، ونحن مسلمون أرادت السياسة أم لم ترد، وإن في هذا الكتاب ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ وليس هناك من يستطيع أن يحول دون سعيي إلى ذكر الله.

» وجاء أحد هؤلاء الضباط إلى إحدى القرى ذات يوم، يريد الحصول على ما يودّه من مواد يضمّها إلى مؤلف يعدّه في تاريخ العلويين وديانتهم، وكان ثمّة البطل العربي الشيخ صالح العلي آنئذٍ، فلما سأل الرجل أسئلة مدّ الشيخ يده الكريمة، بكتاب الله، وهو يقول: (إذا أردت تاريخ العلويين، فهذا تاريخهم، وإذا شئت دينهم فهذا دينهم)
وعبثاً جادل الرجل وعبثاً داور وكابر ...
ولا أزيدك معرفة هذا البطل الإسلامي العربي، فتلك شخصية من شخصيات التاريخ، وذلك شعار من شعائر الحرية التي لا تنسى.
لكني أذكر لك خدمة للتاريخ، خلة واحدة من مزايا هذا البطل في كفاح الإستعمار تلك هي إصراره على تسجيل كلمة مسلم التي حذفها الأجنبي بالقوة في كل تذكرة من تذاكر أفراد عشيرته، مما أجبر الفرنسيين على إرجاء التسجيل يومئذٍ، حتى آخر عهد الإنتداب، انهزاماً أمام قوّة الإيمان الغالب.

هذا ما قاله الكاتب محمد مجذوب بالحرف الواحد في مقالات سابقة كتبها بنفسه عن العلويين بما شاهدهم عليه من معاشرته لهم ولم يجبره أحد على كتابتها.

وتتلخص أقواله باعترافه بإسلام العلويين مع ذكر الظلم والإضطهاد الذين عانوه من جرّاء بعض الفتاوي الجائرة التي كُتبت بأيدي بعض الشيوخ المنتفعين الذين لم يُحسنوا التفكير كما قال، بالإضافة إلى اعترافه برسوخ العقيدة الإسلامية في قلب العلوي وذكره لبعض المآثر الكريمة لبعض الشيوخ العلويين كالشيخ سليمان الأحمد والشيخ صالح العلي والشيخ محسن حرفوش وغيرهم ، ثم تأكيده على إصرار الشيوخ العلويين على بناء المساجد وغير ذلك الكثير.

أوردت هذا التلخيص المختصر كي يتضح للقارئ بعد قراءته الأقوال التي تُناقضها، عدم استقرار هذا الرجل، وإظهاراً للغاية التي من أجلها طعن بالعلويين وكفّرهم وأنها ليست كما ادعى من أنهم غلاة أو ما شاكل ذلك بل الغاية سياسية بحتة تُظهرها أقواله وهذا ما نأسف له أن تُؤَثر الأهواء السياسية على قناعات الإنسان ومبادئه ودينه.

الإنقلاب على دينه ومبادئه وقناعاته

♦ قال في كتابه (الإسلام في مواجهة الباطنية) الطبعة الثانية تحت عنوان (بين يديّ الأحداث) :

حاول الفرنسيون تعميق وجودهم في سورية بكل الوسائل التي تصوّرها محققة لهذا الغرض، فقسّموها إلى دول وحكومات، وأثبتوا ذلك بإثارة الفتن بين الجماعات، ليفرغوا على ذلك التقسيم صفاته الدائمة.. وكان تركيزهم على منطقة اللاذقية أشد من تركيزهم على سواها، فجعلوا منها حكومة ثم دولة، وقرنوا هذه باسم (العلويين) ثم أخذوا يتصيّدون زعماء الجبل بتسليمهم المناصب الصورية الكبيرة، وفتحوا لكل زعيم رصيداً في الوظائف يلحق به من يشاء من أتباعه .

وقد نجحت خطتهم بادئ ذي بدء، في استهواء الأكثرين من نصيرية الجبل، فخضعوا لسياستهم وانساقوا في ركابهم إلى الغاية التي أرادوا، فكان لذلك أثره في مقاومة العمل الوطني، الذي حدّد أهدافه بالإستقلال وإعادة الوحدة السياسية لسورية.

على أن تطوّر الأفكار، وتكاثر المتعلمين في أواسط النصيرية، قد أدّيا في خلال العشرين سنة التالية إلى ظهور جيل من شبابهم لم ترضه هذه الأحوال المُصطنعة، وشعر بأنّ الوضع الطبيعي هو أن يكون له نصيب في حركة المقاومة ضد الوجود الأجنبي .. وهكذا حدث التلاقي الفكري بين هؤلاء وزملائهم من المسلمين العاملين في سبيل الحرية، وكان طبيعياً أن يَجُرّ هذا التلاقي معه ألواناً من التساهل في الإتجاهات الدينية، حتى جاء يوم اعتُبرت فيه الأحكام الدينية بنظر هؤلاء وأولئك عائقاً دون وحدة العمل السياسي، ثم كانت المرحلة التالية فإذا هناك مساعٍ لإزالة الفوارق بين الطائفتين النصيرية والإسلامية، سرعان ما أتت أكلها فصَدَرَت (فتاوي مَدخولة) تكذب كل ما قاله علماء الأمة عن أخطار التعاليم النصيرية، وتؤكد للعامة ما أراده رجال السياسة من أنّ النصيري مسلم تامّ الإسلام، لا يختلف عن السني إلا بإيثاره علياً (رض) على بقية الصحابة مع تقديره للجميع، ولذلك فكل تفرقة بينهما في التعامل الإجتماعي كالزواج والإرث ونحوهما، لغو باطل لا مكان له في حقيقة الإسلام.

ثم أعْقَبَ ذلك ظهور مقالات تزيّن هذا الإتجاه وتدعو إليه بحماسة أكبر، أعقبها كتب سطّرت بأقلام تمت إلى المسلمين، تذهب في هذا السبيل خطواتٍ أبعد، حتى تكاد تحصر الإسلام الحق في النصيري وحده..

وهكذا تحكمت السياسة في موضوع الدين، واستخدمت الأقلام والفتاوي لتأييد هذا الحكم ..

وكان الرابح من هذه الصفقة هم مشايخ النصيرية، الذين كانوا (يضحكون في عبهم) من هذا التصرف الصبياني، الذي زاد سريّة عقائدهم إحكاماً .. ودفعهم إلى البروز في المجتمع بوصفهم من (علماء الإسلام).

ومع إن في هذا التطور قدراً غير قليل من الخير بالنسبة إلى قضية الإستقلال، الذي شاء الله أن يتحقق بإخراج الفرنسيين إلى غير رجعة، فقد انطوى على الكثير من المحاذير، إذ جعل الإسلام موضوع مسلومة واستغلال، وفقاً لأهواء السياسة..

ولو أنّ الوعي الإسلامي كان يومئذ على مستوى الأحداث لجرت الأمور على غير هذا الوجه، ولسارت الطائفتان إلى نوع من التقارب السليم القائم على العلم والمنطق، لا الدجل والإندفاع غير المسؤول .. شأن الحوار الواعي الذي حدث بين المسلمين والمسيحيين أثناء الكفاح الوطني، فكسبت قضية الحرية في سورية خيراً كثيراً، ولم يخسر الإسلام أي شيء، لأن الصراحة كانت رائد الحرية فأيّد القضية من أيّدها من النصارى إيماناً بوحدة البلد، وحفاظا على كرامة الإنسان ووقف بجانب الفرنسيين منهم من رأى مصلحته معهم، أو كانت عصبيته الدينية أكبر من حبّه للعدالة.

وعلى ضوء هذه المقدمة ننظر إلى بعض الكتب التي دبجتها بعض الأقلام في ديار الشام، وبخاصة في الربع الثاني من القرن العشرين، مستهدفة توكيد إسلامية النصيرية.. لقد كانت دعاية غير واعية على الأقل، أكدت أنّ أصحابها لم يُحسّوا بأيّ مسؤولية نحو الإسلام، فوقفوا عند القشور، وغضوا بصائرهم وأبصارهم عن بواطن الأمور ... الخ.

لعمري إنّ هذا هو النفاق بعينه وأيّ نفاق أكبر من هذا فبينما هو في مقالة سابقة ينقض بعض الفتاوي التي تنص على تكفير العلويين، وكيف استخدمت الشريعة المبرّأة لهذه الغايات مما يَندى لها جبين الإنصاف ويضج من هولها كل فاهم حقيقة الإسلام واعتبر أنّ أولئك الغارسين (أصحاب الفتاوى) لم يكن ليُحسنوا التفكير، فيما قد تُثمر غراسهم في الغد، وإنهم لم يكونوا ليُبالوا حق أحفادهم من الأجيال التي عملوا على تسميم حياتها بهذه البذور، فهدموا بذلك حكمة الإسلام من التبشير، واجتناب التنفير.

فإذا هو في كتابه يُناقض نفسه باعتبار أنّ الفتاوي التي صدرت لتأكيد إسلامية العلويين كانت دعاية غير واعية، أكدت أنّ أصحابها لم يحسوا بأيّ مسؤولية نحو الإسلام، ثم أنه اعتبر بأنّ هذه الفتاوي المدخولة (حسب تعبيره) :

حالت دون التلاقي الفكري وإزالة الفوارق بين الطائفتين النصيرية والإسلامية.
وكذّبت كل ما قاله علماء الأمة عن أخطار التعاليم النصيرية وجعلت النصيري مسلم تام الإسلام.

نقول:
نعم إنّ هذه الفتاوي كذبت كل علماء الإسلام الذين طعنوا بالعلويين وأراد بعلماء الأمة : الشهرستاني ، والقلقشندي، وابن الأثير، وابن تيمية، وغيرهم مّمن طَعَنَ بالعلويين زوراً وبهتاناً لا لشيء إلا لأنّهم يوالون أهل العصمة – عليهم السلام – وهذا ما اتّضح لكل فاهِمٍ لمُجريات التاريخ، وإنّ هذه الفتاوى كما وصفها، ليست هي التي جعلت النصيري مسلم تام الإسلام، لأنه مسلم منذ كان الإسلام وهو مسلم ما دام الإسلام والإسلام باقي ما شاء الله.
ولكن هذه الفتاوي شهادات مُنصفة من علماء مُنصفين قالوا الحق ونطقوا الصدق ولم يُبالوا بغضب المخلوق بل همّهم إرضاء الخالق جلّ وعلا.

♦ وأما قوله:

بأنها حالت دون التلاقي الفكري وإزالة الفوارق بين الطائفتين النصيرية والإسلامية.

فهذا كلامٌ بعيدٌ عن مَنطق العقل والواقع بل إنّ هذه الفتاوي الصادقة هي التي أسهمت لنوع من التلاقي بين المسلمين والذي لا يتفق مع مصالح البعض.

♦ وأقف عند قوله:

الطائفتين النصيرية والإسلامية.

إنّ الإسلام في المفهوم الأصولي لا يُطلق عليه لفظ الطائفة بل يُطلق عليه لفظ الدين لقوله تعالى ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ ولكنه أراد بهذا أن يَحُصر الإسلام بالسُنّة دون سائر المذاهب، وليتم سلخ العلويين عنه بإطلاق لفظ الطائفة عليهم وإنهم جبهة في مقابلة الإسلام المُمَثل بأهل السُنَّة وإننا لا نُنكر إسلام السنة أو الشيعة أو الزيديين ولكننا نُنكر أن يَنحَصِرَ الإسلام في طائفة دون أخرى.
وإنّ الإسلام لكل من يُقرّ بالشهادتين ويعمل بأحكامه من دون نُكرانٍ لأصلٍ من أصوله أو فرع من فروعه.

أليس من العجيب الغريب أن يَقول في مقامه الأول إنّ أصحاب هذه الفتاوي (لم يحسنوا التفكير) لتكفيرهم العلويين.
ثم يقول في مقاله الثاني (إنّ أصحاب هذه الفتاوي لم يُحسّوا بأي مسؤولية نحو الإسلام) لقولهم بإيمان وإسلام العلويين.
لو نظرنا إلى هذين النقيضين الغير متجانسين لكانا كافيان على الشك بنوايا هذا الكاتب وسقوط جميع ما كتبه ولفّقه من التُهَم ضد العلويين.

♦ وأما قوله في كتابه:

وكان الرابح في هذه الصفقة هم مشايخ النصيرية، الذين كانوا – يضحكون في عبهم – من هذا التصرف الصبياني، الذي زاد سريّة عقائدهم إحكاما ودفعهم إلى البروز في المجتمع بوصفهم من علماء الإسلام.

فهو يتنافى مع ما مدحهم به في مقدمة اليوبل الذهبي، وفي مقالته تحت عنوان "العقيدة الإسلامية في قلب العلوي" وذِكره لبعض المواقف الإيمانية لمجموعة من مشايخ العلويين.
وهل يستطيع أن ينكر بأن الشيخ سليمان الأحمد ليس عالماً فقط بل علامة فاق أقرانه وجيرانه من العلماء العلويين وغيرهم.
أوليس هو الذي قدّم مقدمة اليوبل الذهبي ووصف الشيخ بما وصفه من صفات الإكبار والتقدير، ثم لماذا لم يتحدث عن هذه السريّة سابقاً؟!
وأيّ سريّة هذه التي وَصَمُونا بها رغماً عنا، ووضوح عقيدة العلوي أظهَرُ من الشمس في رابعَةِ النهار ولكنّ أهل الأهواء لا يُرضيهم ذلك لأسباب معروفة وقديمة.

♦ وأعود إلى قوله في مقدمة هذا الفصل ( بين يدي الأحداث) :

إن نصيرية الجبل، خضعوا لسياسة فرنسا وانساقوا في ركابها إلى الغاية التي أرادت من إقامة دولة مستقلة للعلويين ليتمّ الإنسلاخ عن الوطن الأم.

إنّ هذا الكلام تُكذّبه الثورة التي أشعلها وأَلهبها المُجاهد العربي الكبير الشيخ صالح العلي منذ اللحظة الأولى لدخول الفرنسيين إلى سوريا أي منذ سنة 1918م إلى سنة 1921 وهي ثورة في سورية ضد الفرنسيين وقد تكبّد الفرنسيون بسببها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد والكبرياء.
وهل يستطيع أن ينكر قوله:

بأن الشيخ صالح العلي وبسبب إصراره على تسجيل كلمة مسلم على تذكرة الهوية والتي حذفها الفرنسيون بالقوة في كل تذكرة من تذاكر أفراد عشيرته وقد أجبر الفرنسيين على إرجاء التسجيل حتى آخر عهد الإنتداب انهزاماً للفرنسيين أمام قوة الإيمان الغالب.

أوليس إصرار الشيخ محسن حرفوش قاضي المذهب في جبلة على صلاة الجمعة في مسجد للمسلمين السنة رغم إرادة ذلك الضابط الفرنسي الذي أراد أن يمنعه من الصلاة في مساجدهم على أساس أنّهم لا يعتبرونه مُسلماً.
أليس هذا دليلاً على عدم خضوع العلويين للسياسة الفرنسية التي كانت تهدف إلى تفريق المسلمين بإثارة النعرات بينهم.
وهذه القصة أوردها الكاتب محمد مجذوب فها هو الآن ينقضها كعادته.

ونكتفي بهذا القدر ونترك للقارئ حرية الحكم على أقوال هذا الكاتب (الغريب الأطوار) .