مُقَدَِّمَةُ الإِجَابَةِ
السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
سُؤَالُكَ أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيْمُ دَلِيْلٌ عَلَى رَغْبَتِكَ فِي أَنْ تَكُونَ مُنْصِفًا، وَأَنْ تَبْنِيَ بَحْثَكَ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الحَقِيْقَةِ.
وَلَقَدْ أَصَابَ أَو كَادَ مَنْ تَحَرَّى، وَبَرِئَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ مَنِ اسْتَقْصَى، بَاذِلاً وُسْعَهُ وَمُسْتَفْرِغًا مَجْهُودَهُ.
فَإِنْ أَصَبْنَا مِنَ الحَقِيْقَةِ شَيئًا، فَفَضْلٌ مِنَ اللهِ وَنِعْمَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ فِي حَلاوَةِ التَّمَنِّي مَا نُسَلِّي بِهِ غَمَّنَا.
وَمَا رَدَّ العَزَاءُ مَيِّتًا وَلَكِنَّهُ وَاسَى، وَمَا خَفَّفَ عَائِدُ المَرِيْضِ أَلَمًا، وَلَكِنَّهُ مَنَّى، وَمَنْ صَاحَبَ الأَمَلَ لَمْ يَيْأَسْ.
بَيْنَا أَنْظُرُ فِي أَسْئِلَتِكَ عَثَرْتُ عَلَى مَقَالَتِكَ، فَرَأَيْتُكَ قَدِ اسْتَقْصَيْتَ وَعَرَضْتَ، فَلَمْ تَبُتَّ حُكْمًا وَلَمْ تَقْطَعْ بِرِوَايَةٍ، شَأْنَ البَصِيْرِ بِمَا فِي التَّارِيْخِ مِنَ الأَوْهَامِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنْتَ أَيَّمَا إِحْسَانٍ فِي اجْتِنَابِ الطَّائِفِيَّةِ وَاعْتِزَالِ المَذْهَبِيَّةِ إِلاَّ نَاقِلاً، وَمَا خَلا كَلامُكَ مِنْ إِيْمَاءٍ إِلَى إِهْمَالِ بَعْضِهِم مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا شَغَلَ بِهِ نَفْسَهُ. فَحَيَّاكَ اللهُ كَاتِبًا نَبِيْلاً، وَإِنْسَانًا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ كَاتِبًا.
مَا أَدْرِي أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيْمُ، بِأَيِّ شَيءٍ يَسْتَطِيْعُ مِثْلِي أَنْ يَنْفَعَ رَجُلاً مِنْ أَمْثَالِكَ. وَأَيْنَ أَنَا مِنْ سَعَةِ اطِّلاعِكَ وَطُولِ بَاعِكَ، وَأَنْتَ نَاظِرٌ فِي كُتُبِ التَّارِيْخِ وَفِي كُتُبِ السِّيَاسَةِ، وَفِيْمَا تُصْدِرُهُ مَرَاكِزُ الأَبْحَاثِ وَالدِّرَاسَاتِ، وَفِيْمَا يُنْشَرُ عَلَى الشَّابِكَةِ مَكْتُوبًا وَمَرْئِيًّا، حَتَّى كَادَ بَحْثُكَ يَسْتَوعِبُ كُلَّ قَولٍ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ فَائِدَةٍ، وَيَتَّسِعُ لِكُلِّ إِيْضَاحٍ.
فَمَا أَنَا إِلاَّ كَجَالِبِ الدُّرِّ إِلَى البَحْرِ، أَوكَمُبْضِعِ تَمْرٍ إِلَى هَجَر. فَإِنَّ : ((مَنْ عِنْدَهُ الدُّرُّ لا يُهْدَى لَهُ الصَّدَفُ)).
وَلَوْلا مَا أَكْرَمْتَنِي بِهِ مِنْ سُؤَالٍ يَقْتَضِي أَنْ أُجِيْبَكَ بِمَا أَعْلَمُ وَأَرَى، فَجَعَلْتَ لِي مِنَ الفَضْلِ مَا لا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي، وَمِنَ القَدْرِ مَا لا أَرَاهُ لِِمِثْلِي، لَمَا كَتَبْتُ شَيئًا مِمَّا كَتَبتُ.
عَلَى صُعُوبَةِ هَذَا المَقَامِ الذّي لَمْ يَسْتَسْهِلْهُ شُيُوخُنَا عَلَى طُولِ بَاعِهِم فِيه، وَسَعَةِ اطِّلاعِهِم عَلَيهِ، وَرُبَّ كَاتِبٍ تَهَيَّبَ الكَلِمَةَ إِجْلالاً لِشَأْنِهَا، وَأَدِيبٍ تَوَقَّى البَيَانَ إِكْرَامًا لِقَدْرِهِ.
وَلَعَلَّ أَقْرَبَ شَاهِدٍ عَلَيهِ، جَوَابُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد عَنْ سُؤَالِ الأُسْتَاذ مُحَمّد كرد علي عَنِ المَذْهَبِ العَلَوِيِّ. وَمِنْهُ قَولُهُ:
(( أُمَّةٌ تَوَالَتْ عَلَيْهَا النَّوَائِبُ السِّيَاسِيَّةُ وَالاجْتِمَاعِيَّةُ خَمْسَةَ أَجْيَالٍ، فَأَخْمَلَتْهَا أَيَّ إِخْمَالٍ، وَانْزَوى عُلَمَاؤهَا وَصُلَحَاؤهَا، وَعَاثَ الجَهْلُ فِي عَشَائِرِهَا فَسَادًا.
لَيْسَ مِنَ السَّهْلِ الكِتَابَةُ عَنْهَا، وَلَيْسَ بِالهَيِّنِ ضَلالُ التَّارِيْخِ، وَقَلَّ مَنْ جَرَى فِي مَيْدَانِهِ فَلَمْ يَعْثُرْ...))2
وَايْمُ اللهِ لَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَا ذَكَرْتَ مِمَّا أَجْهَلُهُ، يَمِيْنًا لا أُرِيْدُ بِهَا تَوَاضُعًا، وَإِنَّمَا حَقِيْقَةٌ لا أَدَّعِي خِلافَهَا.
وَلَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى أَسْمَاءِ كُتُبٍ لَمْ أَعْرِفْهَا مِنْ غَيْرِكَ، وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَضَامِينِهَا، وَمِنْهَا مَا سَمِعْتُ بِهِ، أَو رَأَيتُ إِحَالَةً عَلَيهِ فِي بَعْضِ الكُتُبِ، وَشَتَّانَ بَينَ الأَمْرَينِ. وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَبْخَسُ النَّاسَ أَشْيَاءَهُم.
قَالَ تَعَالَى: مأَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ 181 وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ 182 وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ 183 [سورة الشُّعراء]
وَمَا أَنَا إِنْ فَعَلْتُ بِمُسْلِمٍ عَلَوِيٍّ، لَعَلَّ مَا فِي ظَنِّ بَعْضِهِم -وَأُعِيْذُكَ- مِنْ أَنَّ العَلَوِيَّ لا يَعْرِفُ لأَحَدٍ فَضْلاً، يُبْطِلُهُ مَا كَانَ مِنْ كَلامِ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيٍّ لِعُثْمَان :
((وَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ، مَا أَعْرِفُ شَيئًا تَجْهَلُهُ، وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ.
إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ، مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ، وَلا خَلَونَا بِشَيءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ.
وَقَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا، وَسَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَمَا صَحِبْنَا..))3
لَكَأَنَّنِي: مَا أَعْرِفُ شَيئًا تَجْهَلُهُ، وَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لا تَعْرِفُهُ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَالَ الشَّيخ مُحَمّد ياسين: ((إِنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى كُلِّ عَالمٍ مُصْلِحٍ مُجْتَهِدٍ فِي المُسْلِمِينَ نَظَرَ الإِجْلالِ وَالاحْتِرَامِ عَارِفِينَ لِكُلٍّ فَضْلَهُ وَحَقَّهُ...))4
وَبِهَذَا المَنْطِقِ الإِنْسَانِيِّ أُحَاوِلُ وُلُوجَ بَابِ الكِتَابَةِ فِي الفِكْرِ العَلَوِيِّ الذّي لا تَتَغَيَّرُ قَوَاعِدُهُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسَالِيبُ التَّعْبِيرِ عَنْهَا، كَالأَرْضِ التّي يَخْتَلِفُ شَجَرُهَا وَنَبَاتُهَا وَلا يَخْتَلِفُ التُّرَابُ الذّي تَنْمُو فِي بَاطِنِهِ وَتَعْلُو عَلَى وَجْهِهِ.
تُحَدِّدُ طَبِيعَةُ المَوضُوعِ المَنْطِقَ الذّي يَصْلُحُ لِبَيَانِهِ، وَمِنْ عَادَةِ المُؤَلِّفِينَ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ أَنْ يُوَحِّدُوا المَنْطِقَ الذّي يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الكَلامِ عَلَى مَقَاصِدِهِم، فَإِذَا تَعَدَّدَتِ المَوَاضِيعُ أَو تَشَعَّبَ البَحْثُ، تَفَرَّعَ لِكُلِّ مَوضُوعٍ مَنْطِقٌ يُوضِحُهُ.
وَالكِتَابُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عِدَّةِ مَسَائِلَ فِي التُّرَاثِ العَلَوِيِّ، قَدِ ائتَلَفَتْ غَايَاتُهَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهَا، عَلَى أَنَّهَا دَلالَةٌ عَلَى أَنَّهُ تُرَاثٌ وَسِعَ مِنَ الثَّقَافَاتِ جُلَّهَا، وَوَعَى مِنَ فُنُونِ العِلْمِ أَجَلَّهَا، فَكَانَ الفِكْرَ الجَامِعَ فِي مَنَاهِجِهِ عَلَى اخْتِلافِ تَصْنِيفِهَا.
وَلِذَلِكَ تَعَدَّدَ المَنْطِقُ الذّي دَلَّ عَلَيهَا كَتَعَدُّدِ الأَغْصَانِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَيَّا مَا لَمَسْتَ مِنْ أَغْصَانِهَا كَانَ جُزْءًا مِنْهَا، وَقِطْعَةً مِنْ كِيَانِهَا.
وَكَمَا يَتَّصِلُ الغُصْنُ بِأُمِّهِ وَيُؤَدِّي إِلَى أَصْلِهِ، فَكَذَلِكَ يُؤَدِّي كُلُّ مَنْطِقٍ إِلَى الإِنْسَانِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْطِقًا وَطَنِيًّا أَم دِينِيًّا.
إِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ لاخْتِلافِ مَنَاهِجِهِ، كَمَا يَتَفَرَّقُ النَّهْرُ مِنْ يَنْبُوعٍ، وَيَجْتَمِعُ فِي مُسْتَقَرٍّ مِنَ البِحَارِ.
فَعَلَى المَنْطِقِ الدِّينِيِّ فِي هَذَا الفِكْرِ العَلَوِيِّ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ عَلِيّ حمدان عِمران، أَحَدُ قُضَاةِ العَلَوِيِّينَ:
((..الإِسْلامُ بِحَقِيْقَتِهِ لَمْ يُدَنَّسْ بِغَرَضٍ سِيَاسِيٍّ مَا، وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ تَجْزِئَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.
فَالتَّجْزِئَةُ سِيَاسِيَّةٌ صُوْرِيَّةٌ لا دِيْنِيَّةٌ، وَلا تَأْثِيْرَ لَهَا عَلَى الجَوْهَرِ الصَّمِيْمِيِّ.
وَالمُسْلِمُونَ بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِم تَجْزِئَةٌ وَلا تَقْسِيْمٌ.
فَالخِلافُ الوَاقِعُ بَعْدَهُم كَانَ سِيَاسَةً تَسْتَهْدِفُ المَطَامِعَ الشَّخْصِيَّةَ، وَبِهَا تَفَرَّقَتِ الكَلِمَةُ لا الدِّيْنُ.
فَمِنْ تِلْكَ التَّفْرِقَةِ تَكَوَّنَ اسْمُ الشِّيْعِيِّ وَالسُّنِّيِّ وَسِوَاهُمَا...))5
المَنْطِقِ الذّي تَيَقَّنَ أَهْلُهُ أَنَّ الخِلافَ لَيسَ مِنَ الدِّينِ، وَإِنَّمَا مِنْ أَهْوَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهيم:
وَعَلَى المَنْطِقِ الوَطَنِيِّ فِي الفِكْرِ العَلَوِيِّ، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مَحْمود سُليمان الخَطِيب:
صَنَّفْتُ هَذَا الكِتَابَ، فَإِنَّهُ مَنْطِقُ الوَحْدَةِ فِي الفِكْرِ العَلَوِيِّ، وَحْدَةِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَوَحْدَةِ الإِسْلامِ، وَوَحْدَةِ الوَطَنِ.
المَنْطِقُ الذّي رَأَى الإِسْلامَ نَقِيًّا لا يَشُوبُهُ الهَوَى، وَلا تُخَالِطُهُ المطَامِعُ الدُّنْيَوِيَّةُ.
وَالمَنْطِقُ الذّي وَجَدَ الإِنْسَانِيَّةَ أَعْمَقَ جَذْرًا فَصَانَ نَبَاتَهَا، وَلَمَحَهَا أَشْمَلَ فِكْرًا فَاسْتَغْنَى بِثِمَارِهَا.
وَالمَنْطِقُ الذّي تَيَقَّنَ أَهْلُهُ أَنَّ وَحْدَةَ اللِّسَانِ، أَقْوَى مِنْ حُدُودِ البُلْدَانِ.
إِنَّهُ مَنْطِقُ مَنْ وَالَى، وَمَدْرَسَةُ مَنِ اقْتَدَى، وَفِي وَحْدَتِهِ قَولُ الشَّيخ حُسَين سَعّود:
وَمَا هُوَ غَيرُ رَأْيٍ رَأَيتُهُ عَلَى مَا فَهِمْتُهُ، لا أَدَّعِي فِيه نِيَابَةً عَنْ أَحَدٍ، وَلا تَمْثِيلاً لأَحَدٍ، فَمَنْ قَبِلَهُ كَانَ مَشْكُورًا، وَمَنْ أَنْكَرَهُ كَانَ مَعْذُورًا.
مُنْذُ الآن وَإِلَى الأَبد نُرِيدُ أَنْ نَحْيا بِاسْمِ العُرُوبَةِ، وَنَمُوتَ بِاسْمِ العُرُوبَةِ
بَيان مَشايخ العلويّين
15\تموز\1945
- 1ديوان بدوي الجبل 347 ـ 348
- 2خطط الشام 6\262.
- 3نهج البلاغة. الاختيار الخامس والستون بعد المئة.
- 4مجلة النهضة، العدد الثامن 1938 م. ص 365.
- 5مقال منشور في مجلة النّهضة، العدد الثَّامِنُ ، تموز سنة 1938 م. ص 357.
- 6التُّراث الأَدبيّ للعلاّمة الشّيخ عبد اللّطيف إبراهيم 1\222.
- 7ديوان الخطيب 381.
- 8رثاء الشّيخ عليّ عبد الله.
- 9ديوان الشاعر الشيخ محمّد حمدان الخيّر 1\94.
- 134 مشاهدة