مَنْهَجِي فِي الكِتَابِ
تَخْتَلِفُ مَنَاهِجُ الكُتَّابِ بِاخْتِلافِ حَالاتِهِم حِينَ يَكْتُبُونَ، أَكْثَرَ مِنِ اخْتِلافِ ثَقَافَاتِهِم وَمُيُولِهِم، فَيَرَى القَارِئُ مَا لا يَتَوَقَّعُ، وَيَخِيبُ فِيمَا يَأْمُلُ وُقُوعَهُ.
تِلْكَ الغَرَابَةُ التّي يَتَلَقَّاهَا القَارِئُ بِالمُفَاجَأَةِ، التّي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِهِ؛ لِيُحْسِنَ النَّظَرَ فِيهَا فَلا يَغْلِبُهُ النَّصُّ عَلَى حُكْمٍ، وَلا يُخْرِجُهُ مِنْ نَقْدٍ، وَلا يَسْتَولِي عَلَيهِ مِزَاجُ الكَاتِبِ فَيَنْقَادَ لَهُ مُتَعَلِّقًا بِشَخْصِيَّتِه، وَلا يَمْتَنَعُ عَلَيهِ، فَيَتَجَاوَزَهُ نُفُورًا مِنْ لَفْظَةٍ لَمْ يَأْلَفْهَا، وَاسْتِيَاءً مِنْ فِكْرَةٍ لَمْ يَعْهَدْهَا.
رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلِيٍّ :
((غَرِيبتَانِ: كَلِمَةُ حِكْمَةٍ مِنْ سَفِيهٍ فَاقْبَلُوهَا، وَكَلِمَةُ سَفَهٍ مِنْ حَكِيمٍ فَاغْفِرُوهَا، فَإِنَّهُ لا حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عَثْرَةٍ، وَلا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ))1
وَالإِنْسَانُ مَرْهُونٌ بِطَبْعِهِ، وَمُقَيَّدٌ بِقَنَاعَتِهِ، وَقَلَّمَا تَجِدُ كَاتِبًا هَادِئًا فِي شَيءٍ يَتَّصِلُ بِشَخْصِيَّتِهِ، وَإِنِ تَبَايَنَتْ دَرَجَاتُ الطَّبْعِ فِي اللِّينِ وَالشِّدَّةِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي السُّكُونِ وَالحِدَّةِ.
لِكُلِّ بَحْثٍ مُشْكِلاتُهُ، وَمِنْ مُشْكِلاتِ الكِتَابَةِ فِي شَأْنِ المَذْهَبِ العَلَوِيِّ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ أَتْبَاعِهِ، اخْتلاطُ الأَفْكَارِ وَالْتِبَاسُ الآرَاءِ، وَتَشَابُكُ المَسَائِلِ بَينَ تَقْلِيدِ مُؤَلِّفٍ وَمُتَابَعَةِ مُنْتَقِدٍ عَلَيهِ.
وَأَكْثَرُ المُؤَلَّفَاتِ فِي هَذَا الشَّأْنِ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِي الجَدِيدِ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى القَدِيمِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ إِضَافَةُ جُمْلَةٍ عَلَى فِقْرَةٍ تُعَدُّ زِيَادَةً فِي الإِيضَاحِ، وَنَسْخُ فُصُولٍ مِنْ كِتَابٍ مُذَيَّلَةً بِالإِحَالَةِ عَلَى مَصْدَرِهَا، أَومُهْمَلَةً مِنَ الإِسْنَادِ، تُعَدُّ تَوَسُّعًا فِي البَيَانِ، وَتَجْدِيدًا فِي الكِتَابَةِ، وَتَفْصِيلاً فِي الشَّرْحِ.
وَمِنَ المُشْكِلاتِ فِي هَذَا الشَّأْنِ: تَقَدُّمُ النَّتَائِجِ عَلَى المُقَدِّمَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ طَبِيعَةُ الأُمُورِ أَنْ يَتَأَخَّرَ الحُكْمُ عَنِ القَضِيَّةِ حَتَّى تُعْرَضَ وَتُسْتَوفَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ كَتَبَ فِي الشَّأْنِ العَلَوِيِّ قَدَّمَ الحُكْمَ عَلَى الوَقَائِعِ، كَأَنَّ الغَرَضَ مِنْ تَأْلِيفِهِ تَسْجِيلُ قَنَاعَتِهِ السَّابِقَةِ، وَإِثبَاتُ رَأْيِهِ فِي صِيغَةٍ جَدِيدَةٍ مِنَ الأَلْفَاظِ.
فَإِذَا اسْتَعْرَضْتَ الكُتُبَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ جَعَلْتَهَا فِي بَابَينِ مِنَ المُؤَلَّفَاتِ، وَمَنْهَجَينِ مِنْ طَرَائِقِ الكِتَابَةِ.
كَتَبَ قَومٌ فِي الشَّأْنِ العَلَوِيِّ فَأَخْرَجُوا العَلَوِيِّينَ مِنَ الإِسْلامِ، وَنَفَوا عَنْهُم النَّسَبَ العَرَبِيَّ، وَسَلَبُوهُم كُلَّ صِفَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَشَكَّكُوا فِي وَطَنِيَّتِهِم وَانْتِمَائِهِم.
وَكَتَبَ قَومٌ فَخَالَفُوا أُولَئِكَ، وَانْتَقَدُوا عَلَيهِم إِسْرَافَهُم فِي الطَّعْنِ، وَمُبَالَغَتَهُم فِي القَدْحِ، وَبَقِيَ القَارِئُ عَلَى هَذِهِ الحَالِ.
الحَال التّي وَصَفَهَا الدكتور مصطفى الشكعة فِي كِتَابِهِ إِسْلام بِلا مَذَاهب:
(( ... مِنْ أَدَقِّ الأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا عَلَى البَاحِثِ الأَمِينِ المُتَجَرِّدِ أَنْ يَكْتُبَ فِي مَوضُوعٍ مِثْلِ المَذْهَبِ العَلَوِيِّ أَوِ الفِرْقَةِ العَلَوِيَّةِ.
ذَلِكَ لأَنَّ المَصَادِرَ التّي تَحْتَ يَدِهِ لَيسَتْ مِنَ الكَفَاءَةِ وَالكِفَايَةِ بِحَيثُ يُمْكِنُ الاعْتمَادُ عَلَيهَا اعْتِمَادًا كُلِّيًّا.
هَذَا فَضْلاً عَنْ تَشَعُّبِ القَولِ فِيهَا وَاخْتِلافِ وُجهَاتِ النَّظَرِ بَينَ كَاتِبِيهَا اخْتِلافًا بَيِّنًا يَصِلُ إِلَى حَدِّ التّضَادِّ الكَامِلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ............
فَكَانَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّخَبُّطِ فِي شَأْنِهِم عِلْمًا وَعَقِيدةً وَتَارِيخًا.
تَخَبُّطٌ بَينَ الكُتَّابِ عَلَى قِلَّتِهِم، وَتَخَبُّطٌ بَينَ القَومِ أَنْفُسِهِم: المُثَقَّفِينَ مِنْهُم فِي جَانِبٍ مِنَ التَّفْكِيرِ السَّوِيِّ، وَالعَامَّةِ فِي جَانِبٍ آخَرَ مِنَ التَّفْكِيرِ الذّي يَحْتَمِلُ رُكَامَ المَاضِي وَأَوضَارَ السِّنِينَ.
وَهُم فِي كُلِّ ذَلِكَ، المُثَقَّفُ وَالعَامِّيُّ مَجْنِيٌّ عَلَيهِم، مُحْتَاجُونَ إِلَى فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ تَجْمَعُهُم وَتَلُمُّ شَتَاتَ أَفْكَارِهِم... )) 2
وَلَعَلَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذَا الاخْتِلاطِ: مَا نُسِبَ إِلَى العَلَوِيِّينَ مِنْ أَقْوَالٍ اتَّخَذَهَا بَعْضُهم حُجَّةً فِي نَفْيِ إِسْلامِهِم وَغُلُوِّهِم فِي الاعْتِقَادِ، وَالتّشْكِيكُ فِي غَيرِهِ مِنَ الآثَارِ التّي تُثْبِتُ تَمَسُّكَهُم بِالإِسْلامِ.
فَإِذَا كَتَبُوا فِي بَيَانِ إِسْلامِهِم وَصِحَّةِ أَنْسَابِهِم وَنَقَاءِ عُرُوبَتِهِم، وَأَيَّدُوا ذَلِكَ بِآثَارِ شُيُوخِهِم وَأُدَبَائِهِم، أَعْرَضَ المُنْتَقِدُونَ عَمَّا بَيَّنُوهُ، وَأَبَوا إِلاَّ أَنْ يَأْخُذُوا عَمَّنْ شَكَّكَ فِي اعْتِقَادِهِم.
وَإِذَا شَهِدَ لَهُم غَيرُهُم بِشَيءٍ مِنَ المَزَايَا الحَسَنَةِ، فَنَوَّهَ بِوَفَائِهِم وَأَشَادَ بِمَوقِفٍ مِنْ مَوَاقِفِ وَطَنِيَّتِهِم، اسْتَخَفَّ المُنْتَقِدُونَ بِثَنَائِهِ، وَضَعَّفُوا شَهَادَتَهُ، وَرُبَّمَا اتَّهَمُوهُ بِمَا يَجْرَحُ عَدَالَتَهُ؛ لِيُسْقِطُوا قَولَهُ، وَيُوهِنُوا الاسْتِدْلالَ بِكَلامِهِ.
فَلا تَكَادُ تَرَى فَرْقًا بَينَ المُجَادَلاتِ وَالمُشَادَّاتِ التّي نَشَأَتْ فِي أَوَائِلِ الإِسْلامِ وَمَا نَشَأَ بَعْدَهَا، فَكَمَا كَانَتْ كُلُّ فِئَةٍ تَرْمِي أُخْتَهَا بِالضَّلالِ وَالمُرُوقِ، فَكَذَلِكَ اليَومَ تَرْمِي كُلُّ فِئَةٍ أُخْتَهَا بِالشُّذُوذِ عَنِ الحَقِّ وَالانْحِرَافِ عَنِ الاسْتِقَامَةِ.
وَكَمَا شُغِلَ كَثِيرٌ فِيمَا مَضَى بِهَذِهِ المُنَازَعَاتِ، فَقَدْ شُغِلْنَا بِهَا فِي زَمَانِنَا، وَرُبَمَّا كَانَ الصَّوَابُ أَنْ أَقُولَ: تَابَعْنَا مَا كَانَ مِنْهَا، وَوَاصَلْنَا العَمَلَ لإِحْيَائِهِ وَإِثَارَتِهِ، عَلَى اخْتِلافِ قُوَّتِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ، فَقَدْ يَضْعُفُ فِي عَصْرٍ وَيَقْوَى فِي عَصْرٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا يَمُتْ وَإِنْ هَدَأَ قَلِيلاً.
فِي الكِتَابِ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّجَاهَينِ مِنَ الاتِّجَاهاتِ الفِكْرِيَّةِ للمَدْرَسَةِ العَلَوِيَّةِ، غَيرَ أَنَّ أَكْثَرَ المُؤَلِّفِينَ فِي شَأْنِهَا، لَمْ يُفَرِّقُوا بَينَ الاتِّجَاهِ الدِّينِيِّ، وَالاتِّجَاهِ الوَطَنِيِّ، عَلَى انْفِرَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَنْطِقِهِ وَبَابِهِ.
مَا حُدِّدَتْ مَلامِحُ فِكْرٍ، فَخَرَجَ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ ثَلاثَةِ مَوَاقِفَ، تُعَدُّ نَتِيجَةَ النَّظَرِيَّاتِ التّي يُؤمِنُ بِهَا.
- المَوقِفِ الدِّينِيِّ ( العَقَائِديّ ) النَّاشِئِ عَنِ اتِّجَاهِهِ الرُّوحِيِّ المَحْضِ.
- وَالمَوقِفِ الإِنْسَانِيِّ (الوَطَنِيّ الاجْتِمَاعِيّ) النَّاشِئِ عَنِ اتِّجَاهِهِ القَومِيِّ.
- وَالمَوقِفِ السِّيَاسِيِّ: النَّاشِئِ عَنْ غَلَبَةِ أَحَدِ الاتِّجَاهَينِ.
وَعَلَى ذَلِكَ اخْتِلافُ المَوَاقِفِ تَبَعًا لاخْتِلافِ النَّظَرِيَّاتِ وَالمَبَادِئِ التّي يَحْفَظُ بِهَا كِيَانَهُ، إِذْ يَتَّخِذُ فِي كُلٍّ مِنْهَا هُوِيَّةً تُحَدِّدُ شَخْصِيَّتَهُ تَبَعًا لانْتِمَائِهِ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ فِكْرِيٍّ.
وَلا يَتَّسِعُ المَقَامُ لِبَسْطِ الكَلامِ عَلَى هَذِهِ الاتِّجَاهَاتِ، غَيرَ أَنَّهَا تَمْهِيدٌ للإِشَارَةِ إِلَى مَلامِحِ المَدْرَسَةِ العَلَوِيَّةِ فِي هَذِهِ المَوَاقِفِ التّي قَلَّمَا أُشِيرَ إِلَيهَا فِي سِيَاقِهَا الحَقِيقِيِّ، فَبَقِيَتْ مُشَتَّتَةً فِي آثَارِ أَصْحَابِهَا.
وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْمَعُ لَغْطًا لا يَسْتَبِينُ، وَأَعْظَمُ مَا يُرَى خَلْطًا لا يَهْتَدِي قَارِئُهُ إِلَى دَلِيلٍ.
لِكُلِّ مَجَالٍ مَوقِفٌ فِي التُّرَاثِ العَلَوِيِّ، لا يَتَجَاوَزُ مَوضِعَهُ وَلا يَتَخَطَّى مَكَانَهُ، عَلَى مَا لِهَذِهِ المَدْرَسَةِ مِنْ قَوَاعِدَ دِينِيّةٍ وَمَعَايِيرَ شَرْعِيّةٍ.
- فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالهُوِيَّةِ العَلَوِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الانْتِمَاءِ الفِكْرِيِّ، ظَهَرَ المَوقفُ الدِّينِيُّ.
- وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالهُوِيَّةِ القَومِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الانْتِمَاءِ الدُّنْيَوِيِّ، ظَهَرَ المَوقِفُ الإِنْسَانِيُّ.
- وَإِذَا تَعَلَّقَ بِالهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الانْتِمَاءِ الحِزْبِيِّ، ظَهَرَ المَوقِفُ السِّيَاسِيُّ.
وَعَلَى هَذِهِ المَوَاقِفِ فِي تَارِيخِ الفِكْرِ العَلَوِيِّ، تَقَدَّمَتِ الهُوِيَّةُ الوَطَنِيَّةُ عَلَى الهُوِيَّةِ المَذْهَبِيَّةِ، لأَنَّهَا الأَبْقَى فِي مَبَادِئِهِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالأَجَلُّ فِي عَقِيدَتِهِ الإِيمَانِيَّةِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ تَكَسُّبًا أَدْخَلَهُ فِي الإِسْلامِ السِّيَاسِيِّ، وَلا مُجَامَلَةً أَخْرَجَتْهُ مِنْ نَهْجِهِ الدّينِيِّ.
إِنَّهَا الكَلِمَةُ التّي أَجَابَ بِهَا الشَّيخ صَالح العَليّ، طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، إِذْ سَأَلَهُ الجنرال الفرنسي غاستون بيلوت، عَنِ الدّافعِ إِلَى الثَّورَةِ، فَاخْتَصَرَ الجَوَابَ بِقَولِهِ : (إِنَّهُ حُبُّ الوَطَن).3
عَلَى أَنَّ تِلْكَ التّسْمِيَةَ ضَرُورةٌ أَلْجَأَ إِلَيهَا الشَّائِعُ مِنَ الأَلْفَاظِ، وَلَولا شُيُوعُهَا فِي هَذَا البَابِ وَاسْتِدْعَاءُ مُفْرَدَاتِهَا؛ لَمَا اخْتَرْتُ تَسْمِيَةَ الوَطَنِيَّةِ بِالمَوقِفِ السِّيَاسِيِّ.
إِلاّ أَنَّهُ دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ المِعْيَارَ فِي مَبَادِئِهَا هُوَ الوَطَنِيَّةُ التّي يُمَثِّلُهَا القَائِمُ بِالعَمَلِ السِّيَاسِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ؛ لِمَا فِي تُرَاثِهَا مِنْ تَأْيِيدِ بَعْضِ المَوَاقِفِ السِّيَاسِيَّةِ.
كَمَوقفِ جَمعيّة الاتِّحَاد والتّرقّي مِنَ السُّلطَان عَبد الحميد، وَمَوقِف الشَّريف حُسين فِي الثَّورةِ العَرَبِيّة، وَمَوقف الرّئيس جَمَال عبد النّاصر فِي تَأْمِيم قناة السويس، وَالوَحدَة السُّوريّة المِصْرِيَّةِ، وَمَوقف الرّئيس شكري القوتلي من الملك فيصل بَعْدَ مَيلِهِ إِلَى بَريطانيا.
فَقَدْ كَانَ الاتِّجَاهُ الوَطَنِيُّ غَالِبًا فِي المَوقِفِ السِّيَاسِيِّ، وَلَو دَاخَلَهُ شَيءٌ مِنَ المَذْهَبِيَّةِ لَمَا كَانَتْ تِلْكَ المَوَاقِفُ الوَطَنِيَّةُ فِي تَارِيخِهَا.
وَذَلِكَ للفَرْقِ بَينَ الصِّفَتَينِ، عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ كُلُّ صِفَةٍ مِنَ التَّفَرُّغِ لِمَبَادِئَ مُعَيَّنَةٍ، عَلَى مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلٌّ مُشْتَغِلٍ بِشَيءٍ يُعْرَفُ بِهِ.
فَمَنْ كَانَتْ لَهُ صِفَةٌ دِينِيَّةٌ، اقْتَضَى وَصْفُهُ بِهَا، تَفَرُّغَهُ للعَمَلِ الدِّينِيِّ، وَفِي الأَقَلِّ كَثْرَةُ اشْتِغَالِهِ بِمَا يَتَّصِلُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ عُرِفَ بِصِفَةٍ سِيَاسِيّةٍ، فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِهَا حَتَّى يَتَفَرَّغَ للعَمَلِ السِّيَاسِيِّ، الذّي يَكُونُ غَالِبًا عَلَى مَنْطِقِهِ، بَعْدَمَا أَصْبَحَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَجَالٌ مُنْفَرِدٌ عَنِ الآخَرِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ تَدَاخُلُهُمَا نَادِرًا فِي الفِكْرِ العَلَوِيِّ؛ لِتَعَذُّرِ النَّجَاحِ فِي الجَمْعِ بَينَهُمَا إِلاَّ قَلِيلاً، وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الغَايَةِ الوَطَنِيَّةِ؛ لِمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ مَفَاهِيمَ وَاصْطِلاحَاتٍ انْفَرَدَ بِهَا فِي التّعْبِيرِ عَنِ المَصْلَحَةِ الوَطَنِيَّةِ.
وَلَمَّا أَصْبَحَ المُشْتَغِلُ بِالعَمَلِ السّيَاسِيِّ قَائِمًا عَلَى الإِدَارَةِ بِالصِّفَةِ التّي يُمَثِّلُ بِهَا غَيرَهُ مِنْ طَرِيقِ المَنْصِبِ الذّي يُخَوِّلُهُ التَّعْبِيرَ وَالقَرَارَ، تَمَيَّزَ القَائِمُ عَلَى الشَّأْنِ الدِّينِيّ مِنَ القَائِمِ عَلَى الشَّأْنِ السِّيَاسِيِّ.
وَمَا أَصْبَحَ المَوقِفُ الدّينِيُّ فِي القَضَايَا الوَطَنِيّةِ ذَا صِبْغَةٍ سِيَاسِيَّةٍ، بِسَبَبِ اشْتِغَالِ رِجَالِهِ بِالعَمَلِ السِّيَاسِيِّ، فَإِنَّ فِي الشَّأْنِ الدّينِيِّ مَا يَشْغَلُهُم عَنْ غَيرِهِ.
وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ لَهُ الصِّبْغَةُ السِّيَاسِيّةُ بِسَبَبِ تَعْبِيرِهِم عَنْ تِلْكَ القَضَايَا بِتَأيِيدِ مَوقِفٍ سِيَاسِيٍّ مَا، إِذْ لا سَبِيلَ لأَحَدِهِم لِبَيَانِ مَوقِفِهِ الوَطَنِيِّ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ تَأْيِيدِهِ لِمَنْ يَرَاهُ وَطَنِيًّا مِنْ رِجَالِ السِّيَاسَةِ؛ لاشْتِغَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَهْجٍ مُسْتَقِلٍّ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ فِي سِيرَةِ أَعْلامِ هَذِهِ المَدْرَسَةِ تَعْبِيرًا عَنِ الشُّعُورِ الوَطَنِيِّ بِالاكْتِفَاءِ بِتَأْيِيدِ المَوَاقِفِ السِّيَاسِيَّةِ التّي يَظْهَرُ فِيهَا الانْتِمَاءُ الوَطَنِيُّ عَلَى غَيرِهِ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَعْلامِ الوَطَنِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ العَلَوِيِّينَ لَمْ يُهَيَّأْ لَهُم مَا هُيِّئَ لِغَيرِهِم مِنَ التّوثِيقِ.
وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي سِيرَةِ المُجَاهِدِ الشَّيخ صَالح العَلِيّ، طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ، بَعْدَ تَوَقُّفِ القِتَالِ، وَتَفَرُّغِهِ للشَّأْنِ الدّينِيِّ.
(( وَلَمْ يَخْرُجِ الشَّيخُ مِنْ عُزْلَتِهِ الهَادِئَةِ إِلاّ فِي المَوَاقِفِ الوَطَنِيَّةِ التّي كَانَتْ تَتَطَلَّبُ الجَهْرَ بِمَصَالِحِ البِلادِ.
وَحِينَمَا احْتَدَمَتْ مَعْرَكَةُ الوَحْدَة وَالانْفِصَالِ سَنَة 1936 كَان الشَّيخ أَوَّلَ مَنْ لَبَّى نِدَاءَ الوَاجِبِ، وَأَبْرَق إِلَى المَرَاجِع المَسْؤولَةِ مُؤَيِّدًا وَحْدَة البِلادِ السُّورِيَّةِ، وَقَدْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ المُؤتَمَرَاتِ الوَطَنِيّةِ التّي عُقِدَتْ فِي سَبِيلِ وَحْدَةِ الصّفّ وَتَحْقِيقِ الآمَالِ القَومِيَّةِ.....
وَحِينَمَا قَام الفرنسيّون بِاعْتِدَاءاتِهم المُتَكَرّرة عَلَى دمشق سَنَة 1945 وَهَبَّ الشّعبُ غَاضبًا ثَائِرًا، كَان الشّيخ أَوَّلَ مَنْ دَعَا إِلَى حَشْد الصُّفُوفِ وَالتَّهيئةِ للقِتَالِ.....))4
فَلَمْ يَمْنَعْهُ التَّفَرُّغُ للشَّأْنِ الدّينِيّ مِنْ مُرَاعَاةِ المَصْلَحَةِ العَامَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ المَوَاقِفِ جَمَعَ بَينَ الدّينِ وَالوَطَنِيَّةِ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَينَ الدّينِ وَالسِّيَاسَةِ.
وَعَلَى هَذَا التَّوَجُّهِ الوَطَنِيِّ كَانَ المَوقِفُ فِي هَذِهِ الحَرْبِ التّي اقْتَفَى فِيهَا الأَبْنَاءُ آثَارَ الآبَاءِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ هُوِيَّتِهِم السُّورِيَّةِ، وَانْتِمَائِهِم العَرَبِيِّ، عَلَى إِيمَانِهِم أَنَّهَا حَرْبُ أُمَّةٍ وَهُوِيَّةٍ وَلَيسَتْ حَرْبَ طَائِفَةٍ وَمَذْهَبٍ.
وَمَا كَانَت الأَكَاذِيبُ وَالحِيلُ فِي تَصْوِيرِ هَذِهِ الحَرْبِ، عَلَى أَنَّهَا حَرْبُ طَائِفَةٍ، أَو بَعْضِهَا، لِتَجُوزَ عَلَى مَنْ يَرَى الحَيَاةَ فِي الحَاضِرِ، إِذَا تَوَهَّمَ مَنْ رَأَى تَنْظِيمًا مِثل دَاعش وَالنّصرة، يَدَّعِي أَنَّهَا حَرْبٌ لإِقَامَةِ سُلْطَانِ اللهِ.
التَّطَوُّرُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الحَيَاةِ، وَالتَّجَدُّدُ قَانُونٌ مِنْ قَوَانِينِ الوُجُودِ، غَيرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ العُقُولِ لا يُقِرُّ بِهَذِهِ السُّنَّةِ الكَونِيَّةِ، وَلا يَعْتَرِفُ بِهَذِهِ القَوَانِينِ الأَزَلِيَّةِ.
قَالَ العَلاّمة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد:
لَونٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْوَانِ التَّطَوُّرِ: كَانَ حَظَّ كَثِيرٍ مِنَ المُؤَلِّفِينَ فِي الفِكْرِ العَرَبِيِّ عُمُومًا، وَفِي الفِكْرِ الدِّينِيّ خُصُوصًا، عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الكَلِمَةِ.
عَلَى أَنَّهُ لَو لَمْ يَكُنْ تَطَوُّرًا قَسْرِيًّا؛ لَمَا كَانَ لَهُم نَصِيبٌ مِنْهُ، ذَلِكَ التَّطَوُّرُ اللُّغَوِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الكَلِمَاتِ وَإِهْمَالِ بَعْضِهَا، وَتَرْدِيدُ أَلْفَاظٍ فَرَضَهَا تَقَدُّمُ بَعْضِ الأُمَمِ، فَأَلْجَأَ غَيرَهَا إِلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِ المُفْردَاتِ التّي تَسْتَعْمِلُهَا فِي مُخْتَرَعَاتِهَا.
وَمِنْ لَطَائِفِ التّعْبِيرِ فِي هَذِهِ المَعَانِي، قَولُ الشَّيخ حُسين سَعّود:
مَا يَصِحُّ فِي العَقْلِ: أَنَّ الدِّينَ مَا بَنَى الإِنْسَانَ، وَمَا هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَمَا أَنَارَ عَقْلَهُ، وَمَا مَنَعَهُ الاعْتِدَاءَ عَلَى غَيرِهِ.
وَأَنَّ كُلَّ شَيءٍ يَنْفَعُ الإِنْسَانِيَّةَ لَونٌ مِنْ أَلْوَانِ العِبَادَةِ، وَمَا كَانَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، فَوَهْمٌ لا حَقِيقَةَ لِوُجُودِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الغَايَةَ مِنَ الشَّرَائِعِ نَشْرُ الرَّحْمَةِ وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَإِحْيَاءُ العَدْلِ، وَبذَلِكَ انْتِفَاعُ الخَلْقِ مِنَ الدِّينِ.
جَاءَ فِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ:
(( خَصْلَتَانِ لَيسَ فَوقَهُمَا مِنَ البِرِّ شَيءٌ: الإِيمَانُ بِاللهِ، وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللهِ.
وَخَصْلَتَانِ لَيسَ فَوقَهُمَا مِنَ الشَّرِّ شَيءٌ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالضُّرُّ لِعِبَادِ اللهِ )) 7
مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ المَذْهَبُ العَلَوِيُّ أَنَّهُ جَعَلَ الإِنْسَانِيَّةَ غَايَةَ الإِيمَانِ، وَالإِسْلامَ نِهَايَةَ العَفْوِ، فَأَصَّلَ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ الذّي بُعِثَ رَحْمَةً للعَالَمِينَ.
قَالَ الإِمَامُ الصَّادِقُ :
(( صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَحْسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيكَ، وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ سَبَّكَ، وَأَنْصِفْ مَنْ خَاصَمَكَ.
وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، كَمَا أَنَّكَ تُحِبُّ أَنْ يُعْفَى عَنْكَ، فَاعْتَبِرْ بِعَفْوِ اللهِ عَنْكَ، أَلا تَرَى أَنَّ شَمْسَهُ أَشْرَقَتْ عَلَى الأَبْرَارِ وَالفُجَّارِ، وَأَنَّ مَطَرَهُ يُصِيبُ الصَّالِحِينَ وَالخَاطِئِينَ))8 .
وَمِنْ مَزَايَا هَذَا المَذْهَبِ: أَنَّهُ قَيَّدَ السَّلامَةَ بِحُسْنِ الخُلُقِ، فَالمُؤمِنُ مَنْ أَمِنَ النَّاسُ شَرَّهُ، وَالمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
قَالَ الإِمَامُ الصَّادِقُ :
(( إِنْ يَسْلَمِ النَّاسُ مِنْ ثَلاثَةِ أَشْيَاء، كَانَتْ سَلامَةً شَامِلَةً: لِسَانِ السَّوءِ، وَيَدِ السَّوءِ، وَفِعْلِ السَّوءِ))9 .
فَقَاسَ الإِيمَانَ بِالإِنْسَانِيَّةِ، وَالإِنْسَانِيَّةَ بِالرَّحْمَةِ، وَبِهَاتَينِ يُعْرَفُ إِيْمَانُ العَبْدِ؛ لأَنَّ سُلُوكَهُ الشَّاهِدُ عَلَى إِيْمَانِهِ وَالدَّالُّ عَلَى دِينِهِ، وَتِلْكَ لُغَةُ العَمَلِ، لا لُغَةُ اللِّسَانِ.
وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ العَلَوِيِّ فِي مَعْنَى الإِيمَانِ بِاللهِ، قَالَ الشَّيخ حُسين سَعّود:
(( .. مَتَى عَرِيَ الإِنْسَانُ ـ وَالعِيَاذُ بِاللهِ ـ مِنْ دِينٍ يَدْفَعُهُ نَحْوَ الخَيرِ، وَيَزْجُرُهُ عَنْ إِتْيَانِ القَبِيحِ، كَانَ وَالبَهِيمَةَ بِنِسْبَتِهِ إِلَى الإِنْسَانِيَّةِ شَرَْعًا وَاحِدًا.
وَمَتَى كَانَ الرَّجُلُ أُخْرَوِيًّا، ذَا دِينٍ صَحِيحٍ، يُحَلِّلُ بِهِ كِيميَاءَ الأَعْرَاضِ المَادِّيَّةِ، وَيَنْقُدُ بِهِ عَينَ الطَّبِيعَةِ وَزَائِفَهَا، وَيَزِنُ بِهِ خِفَّةَ المُبَادَلاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرَجَحَانَهَا، وَيُحَكِّمُ عَلَى النَّفْسِ المُسَوِّلَةِ ذَلِكَ العَقْلَ المُنْبَثِقَ مِنْ لَطَافَةِ العُنْصُرِ الطَّيِّبِ المُمَاشِي لِذَلِكَ الدِّينِ الثَّابِتِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ.
مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، كَانَ هُوَ الرَّجُلَ كُلَّ الرَّجُلِ بِجَمِيعِ مَا تَنْطَوِي عَلَيهِ الرُّجُولِيّةُ مِنْ مَعْنىً...))10 .
وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ مَحمود سُلَيمان الخَطِيب:
عَلَى قَدْرِ الإِيْمَانِ تَكُونُ الإِنْسَانِيَّةُ، فَمَنْ خَلا مِنْهَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى خُلُوِّهِ مِنَ الإِيمَانِ، وَإِنْ أَجَادَ البَيَانَ وَأَتْقَنَ الإِيْضَاحَ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهِيم:
وَعَلَى هَذَا المَنْهَجِ كَانَ الإِيمَانُ فِي هَذَا المَذْهَبِ؛ لأَنَّهُ عَلامَةُ الإِقْرَارِ بِاللهِ وَأَنْبِيَائِهِ، إِذِ الغَايَةُ التَّقْوى، وَمَا التّقْوى إِلاَّ الخُضُوعُ لأَمْرِ اللهِ بِكَفِّ الأَذَى.
فَكُلُّ إِنْسَانِيَّةٍ: دِينٌ، وَكُلُّ وَحْشِيَّةٍ: شِرْكٌ
وَكُلُّ مَا نَفَعَ الإِنْسَانَ: عِبَادَةٌ، وَكُلُّ مَا أَضَرَّ بِهِ: جُحُودٌ.
وَمَا الدِّينُ: إِلاَّ مَا أَلَّفَ بَينَ النَّاسِ، وَجَمَعَ قُلُوبَهُم عَلَى الرَّحْمَةِ، وَوَحَّدَ آرَاءهُم عَلَى البِرِّ، فَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ المَزَايَا فَلَيسَ بِدِينٍ يُرْجَى ثَوَابُهُ أَو يُتَّقَى عِقَابُهُ.
وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مَحمود سُلَيمان الخَطيب:
فَمَا بَقِيَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّبَاغُضُ طَارِئًا عَلَى الدِّينِ، وَأَنْ يَكُونَ الوِئَامُ وَالوِفَاقُ غَايَةَ الدِّينِ، فَمَا خَرَجَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الدِّينِ.
إِذَا كَانَ الاخْتِلافُ فِي الآرَاءِ سَبَبًا فِي غَلَبَةِ المذْهَبِيَّةِ عَلَى وَحْدَةِ الإِسْلامِ وَافْتِرَاقِ أَتْبَاعِهِ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الاخْتِلافُ سَبَبًا فِي إضْعَافِ الإِنْسَانِيَّةِ وَافْتِرَاقِ أَبْنَائِهَا.
عَلَّلَ كَثِيرٌ مِنَ المُؤَلِّفِينَ ضَعْفَ المُسْلِمِينَ بِتَفَرُّقِهِم، فَمَا تَمَكَّنَ مِنْهُم خَصمٌ بِمِثْلِ الاسْتِعَانَةِ عَلَيهم بِأَيدِيهِم.
وَمَنْ شُغِلَ بِمُنَازَعَةِ جَارِهِ عَنْ مُرَاقَبَةِ عَدُوِّهِ، فَقَدْ أَغْنَى عَدُوَّهُ عَنْ قِتَالِهِ؛ إِذْ هَزَمَهُ بِلا قِتَالٍ، وَأَهْلَكَهُ بِلا سِلاحٍ.
عَلَى أَنَّ المُنْصِفَ فِي نَقْدِهِ مَنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ الوَاقِعَ إِلَى اتِّهَامِ العَدُوِّ المُحَرِّضِ حَتَّى يُثِبتَ ضَعْفَ الأَنْفُسِ فِي الانْقِيَادِ للإِشَاعَاتِ، وَانْجِرَارَ العُقُولِ إِلَى الشَّائِعَاتِ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا.
وَلِذَلِكَ جَعَلْتُ المَنْهَجَ فِي هَذَا البَحْثِ: مُحَاوَلَةَ الإِجَابَةِ الوَاضِحَةِ التّي لا أَتَحَيَّزُ بِهَا، عَلَى مَسْلَكِ شُيُوخِنَا فِي مِثْلِهِ، وَمِنْهُ قَولُ العَلاّمة الشّيخ سُلَيمان أَحْمد:
(( ... وَأَظُنُّنِي كَتَبْتُ مَا أَدَّانِي إِلَيهِ الحَقُّ، لا الهَوَى، وَهُوَ مَا يُطْلَبُ مِنَ الكَاتِبِ، وَلا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ للاعْتِقَادِ بَعْضُ التَّأْثِيرِ، وَلَكِنَّنِي تَجَنَّبْتُ التَّحَيُّزَ جُهْدَ الاسْتِطَاعَةِ، وَالعِصْمَةُ لِمَنِ اخْتَصَّهُ اللهُ بِهَا...))
لَعَلِّي أَضَعُ الأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا، فَأَجْتَنِبَ بِذَلِكَ مُؤَاخَذَاتِ مَنِ انْتَقَدَ عَلَى المُؤَلِّفِينَ فِي مِثْلِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَولُ الأستاذ عبد الله حنّا:
(( لا شَكَّ فِي أَنَّ دَور المُسْتَعْمِرينَ فِي تَغْذِيَةِ المَشَاعِرِ الطَّائِفِيَّة وَالعَشَائِرِيّة أَمْرٌ لا جِدَالَ فِيهِ، تُبَرهِنُ عَلَيه السِّيَاسَةُ الاسْتِعْمَارِيّةُ المُتَّبَعَةُ.
لَكِنَّ الجَانِب الآخَر مِنَ المُشْكِلَة المُتَمَثِّلَ بِالعَوَامِلِ الدَّاخِلِيَّة المُرَسِّخَة للمَشَاعِرِ الطَّائِفِيَّةِ وَالعَشَائِرِيَّة يُهْمِلُهَا مُعْظَمُ البَاحِثِينَ....
وَهَذِهِ ظَاهِرَةٌ مِنْ مَظَاهِرِ الهُرُوبِ مِنَ المَسْؤولِيّةِ، وَإِلْقَاءِ تَبِعَاتِ التَّخَلُّفِ عَلَى العَوَامِلِ الخَارِجِيَّةِ وَتَبْرِئَةِ الدَّاخِلِ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ...)) 14
عَلَى أَنَّنِي كُنْتُ أُفَضِّلُ أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيْمُ أَنْ نَجْتَنِبَ اسْتِعْمَالَ المُصْطَلَحَاتِ الطَّائِفِيَّةِ وَالأَلْفَاظِ المَذْهَبِيَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا المَقَامِ.
وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهَا إِحْيَاءً للعَصَبِيَّةِ، وَإِمَاتَةً لِكُلِّ وَشِيْجَةٍ وَطَنِيَّةٍ، وَقَطْعًا لِمَا وَصَلَتْهُ فِطْرَةُ الإِنْسَانِ بِأَخِيهِ.
قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ : (( فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مِنَ العَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُم لِمَكَارِمِ الخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ...))15
فَمَا سَاقَ إِلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا خَيْرًا، وَلا زَادَنَا النُّطْقُ بِهَا قُرْبًا إِلَى اللهِ.
وَهَلْ تَفَرَّقَتْ أُمَّةٌ إِلاَّ بِالتَّعَلُّقِ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ ؟
وَهَلْ أَهْلَكَ الأُمَمَ إِلاَّ إِضْعَافُ إِنْسَانِيَّتِهَا، وَإِيْثَارُ تَعَصُّبِهَا لأَفْرَادٍ عَلَى تَعَصُّبِهَا للجَمَاعَةِ ؟
وَعَلَى هَذَا نَهْجُ شُيُوخِنَا فِي ذَمِّ الإِسْرَافِ وَالتَّطَرُّفِ، وَمِنْهُ قَولُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد:
فَلَو اسْتَقْصَيتَ لَمَا رَأَيْتَ دَاءً أَشَدَّ فَتْكًا مِن نَزْعَةٍ إِلَى غَيْرِ الوَطَنِيَّةِ، وَلا أَبْصَرْتَ بَلاءً أَضَرَّ مِنْ تَعَصُّبٍ لِغَيْرِ الإِنْسَانِيَّةِ.
وَهَذَا مَا وَرِثْنَاهُ مِنْ عُلَمَائِنَا، وَمِنْهُ قَولُ الشَّيْخ عَبْد اللّطِيف إِبْرَاهِيْم:
وَفِيهِ مَا فِيْهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اهْتِمَامِ المَرْءِ بِنَفْسِهِ دُوْنَ أُمَّتِهِ، وَمِنْ هَذَا قَولُ العَلاّمَةِ الشَّيخِ سُلَيْمَان أَحْمد:
وَمَا كُنَّا لِنَسْتَعْمِلَ لَفْظًا مَذْهَبِيًّا فِي مَوْقِفٍ وَطَنِيٍّ، وَلَكِنْ:
فَهَذَا لِمَنْ أَرَادَ، دِيْنُنَا وَعُرُوبَتُنَا وَوَطَنِيَّتُنَا، لَمْحَةٌ لَو فُصِّلَتْ لَكَانَتْ كِتَابًا، بَلْ كُتُبًا.
كُلُّ نَزْعَةٍ وَكُلُّ مَبْدَأٍ وَكُلُّ دعَايةٍ تَرْمِي إِلَى التّفْرقَةِ تَتَلاشَى أَمَامَ وَحْدَةِ الأَصْلِ التّي تَرْبُطُ جَمِيعَ أَبْنَاءِ الوَطَنِ بِأَمْتَنِ رِبَاطٍ سَمَاوِيٍّ.
بَيان مَشايخ العلويّين
15\تموز\1945
- 1كنز العمّال 5837، كتاب الأخلاق، قسم الأقوال، 3\57.
- 2إسلام بلا مذاهب 257.
- 3ثورة الشيخ صالح العلي ص 201.
- 4ثورة الشيخ صالح العلي ص 203.
- 5كِتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 186.
- 6في رثاء الشيخ يوسف علي خليل الوقّاف.
- 7تحف العقول.
- 8تحف العقول، وصيّةُ الإِمَام الصَّادِق (ع) لعبد الله بن جندب.
- 9تحف العقول، نثر الدرر.
- 10من كتابٍ له إلى جمعية أنصار الدّين سنة 1936م.
- 11ديوان الخطيب ص 319.
- 12التُّراث الأَدبيّ للعلاّمة الشّيخ عبد اللّطيف إبراهيم 1\451.
- 13ديوان الخطيب ص 87.
- 14المرشدية في محيطها العلوي 49.
- 15شرح نهج البلاغة مج7\115.
- 16كِتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 186.
- 17التراث الأدبي للعلامة الشيخ عبد اللطيف إبراهيم 1\381.
- 18كِتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 127.
- 19ديوان الشاعر الشيخ محمد حمدان الخير 2\200.
- 146 مشاهدة