التراث الفكري في الأدب العلوي

أُضيف بتاريخ السبت, 11/01/2025 - 16:11

التُّرَاثُ الفِكْرِيُّ فِي الأَدَبِ العَلَوِيِّ

قَالَ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد:

(( رَأَيتُ بِاخْتِبَارِي أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا هِيَ التّي تُكَيِّفُ الأَدْيَانَ وَتُنَمِّقُهَا فَتُبْرِزُهَا بِالصُّورَةِ التّي تَرُوقُ أَهْلَهَا مِنْ رَغْبَةٍ أَو رَهْبَةٍ، مُسْتَشْهِدَةً لِكُلِّ حَالَةٍ بِمَا يُرَوِّجُهَا مِنَ الكُتُبِ الإِلَهِيَّةِ وَالآثَارِ النَّبَوِيَّةِ.

وَمَا زَالَ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسَ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَإِلاَّ فَمَا الذّي فَرَّقَ كَلِمَةَ الإِسْلامِ وَسَائِرِ الأَدْيَانِ ؟

أَلَيسَ الأَثَرَةُ وَلَذَّةُ الأَمْرِ وَالنَّهْي رَانَا عَلَى القُلُوبِ، فَنَبَذَتِ الدِّينَ ظِهْرِيًّا بِمَعْنَاهُ الحَقِيقِيِّ، فَصَرَفَتِ الحَقَّ عَنْ أَهْلِهِ وَأَخْضَعَتْهُ حَاجَتُهُ إِلَيهِ لإِرَادَتِهَا، فَسَرَتْ عَلَى مَا يُفَسِّرُهُ وَيَشْرَحُهُ لَهَا هَوَاهَا لَيسَ إِلاَّ.

وَالزَّمَانُ هُوَ هُوَ، اليَوم وَأَمْسِ وَالغَدُ، شَيءٌ وَاحِدٌ بِذَاتِهِ ))1  

لِذَلِكَ تَمَيَّزَ هَذَا المَذْهَبُ بِتُرَاثٍ يَحْكُمُ فِيهِ العَقْلُ عَلَى النَّقْلِ، وَتَغْلِبُ فِيهِ الرَّحْمَةُ عَلَى العَدْلِ.

فَأَمَّا حُكْمُ العَقْلِ؛ فَلأَنَّهُ الحُجَّةُ التّي يَحْتَجُّ بِهَا اللهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَبِهِ يُمَيَّزُ  الخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَالأَوهَامُ مِنَ الحَقَائِقِ.

جَاءَ فِي كِتَابِ تُحَفِ العُقُولِ، أَنَّ ابنَ السِّكِّيت سَأَلَ الإِمَامَ عَلِيَّ الرِّضَا : (( مَا الحُجَّةُ عَلَى الخَلْقِ اليَومَ ؟
فَقَالَ : العَقْلُ، يَعْرِفُ بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ، وَالكَاذِبَ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ ))2
 

وَمَا ارْتَضَاهُ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ، كَانَ تَحْكِيمُهُ أَولَى، إِذْ بِهِ يُثَابُ الإِنْسَانُ وَبِهِ يُعَاقَبُ، عَلَى المَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ العَقْلِ.

وَذَلِكَ أَنَّ شَرْطَ الانْتِفَاعِ بِالعَقْلِ، أَنْ يُحْسِنَ الإِنْسَانُ إِعْمَالَهُ، وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ العَلاّمةِ الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمد:

العَقْلُ،  كَالنَّارِ لا يَنْفَكُّ فِي عَمَلٍ***كَذَلِكَ النَّارُ تُفْنِي مَا بِهِ عَلِقَتْ
تُفْنِي قُوَاكَ بِهِ مَا دُمْتَ مُنْتَبِهَا***فَإِنْ تَصَرَّفْتَ بِالحُسْنَى انْتَفَعْتَ بِهَا3  

ذَلِكَ التُّرَاثُ الذّي جَمَعَ العِلْمَ وَالعَقْلَ، فَنَشَأَ مِنْهُمَا الدِّينُ، فَكَانَا أَصْلَهُ وَأَسَاسَهُ، فَمَنْ جَمَعَ بَينَهُمَا أَصَابَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَ أَحَدَهُمَا أَخْطَأَ القَصْدَ وَأَضَاعَ الحَقِيقَةَ.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مَحْمود سُلَيمَان الخَطِيب: 

أَسْرِجُوا العَقْلَ يَضِحْ مَا دُونَكُم***وَسَلُوهُ رَائِدًا لَنْ يَكْذِبَا
فَهْوَ وَالعِلْمُ رَفِيقَانِ وَمَا***افْتَرَقَا فِي الدَّرْبِ مُنْذُ اصْطَحَبَا
وَهُمَا زَوجَانِ إِمَّا اقْتَرَبَا***أَنْجَبَا الدِّينَ وَيَامَا أَنْجَبَا
خَابَ مَنْ يَطْلُبُ دِينًا لَمْ يَكُنْ***لِكِلا أَصْلَيهِ ذَينِ انْتَسَبَا4  

فَالدِّينُ فِي هَذَا التُّرَاثِ: عِلْمٌ وَعَقْلٌ، وَلَيسَ تَقْلِيدًا عَلَى غَيرِ هُدىً، وَلا اتِّبَاعًا عَلَى غَيرِ بَصِيرَةٍ، وَمَا قَامَ شَيءٌ عَلَى العَقْلِ وَالعِلْمِ إِلاَّ كَانَ رَحْمَةً للخَلْقِ وَبَرَكَةً عَلَى الإِنْسَانِيَّةِ.

وَمِنْهُ قَولُ الشَّيخ إِبْرَاهِيم سَعّود : 

هَيْهَاتَ أُلْزِمُ نَفْسِي***أَقْوَالَ كُلِّ فَقِيْهِ
مَا لا يَصِحُّ بِعَقْلِي***فَلَسْتُ آخُذُ فِيْهِ 

تُرَاثٌ حَكَمَ العَقْلُ فِيهِ بِإِهْمَالِ مَا لا يَنْفَعُ عَمَلُهُ، فَبَرَّأَ الدِّينَ مِمَّنْ حَرَفَهُ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَأَقْصَاهُ عَنِ التَّسَامُحِ؛ تَنْزِيهًا للدِّينِ مِنْ عَبَثِ مَنِ ادَّعَى الجَنَّةَ دُونَ غَيرِهِ، وَقَصَرَ النَّجَاةَ عَلَى رَأْيٍ رَأَى.

وَمِنْهُ قَولُ الشّيخ علي حمدان عمران:

إِنَّ شَعْبَ الفُرْقَانِ فُرِّقَ بِاسْمِ الدِّ***ينِ وَالدِّينُ سَالِمٌ لَيسَ يُثْلَمْ
قَسَّمَتْنَا الأَغْرَاضُ رَغْمَ النَّوَاهِي***لَو نَهَينَا عَمَّا نَهَى لَمْ نُقَسَّمْ
كُلُّ قِسْمٍ قَدْ ظَنَّ مِيراثَهُ الإِسْـ***ـلامَ وَالخُلد، وَالأخِير جَهَنَّمْ
كُنْ مُحِبًّا لآلِ يَعْرُبَ كُلاًّ***وَحَفِيًّا مَا دُمْتَ فِي كُلِّ مُسْلِمْ5  

وَعَلَى هَذَا كَانَ مَا وَرِثْنَاهُ مِنْ شُيُوخِنَا: 

أَنَّ العُرُوبَةَ هِيَ الحِصْنُ الّذِي نَتَحَصَّنُ بِهِ، مِنْ سِهَامِ التَّفْرِيقِ، وَالدِّرعُ الذّي نَدْفَعُ بِهِ رِمَاحَ العَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ.
وَأَنَّ الإِسْلامَ هُوَ الإِنْسَانِيَّةُ.
وَأَنَّ الدِّيْنَ لا يُحَصَّنُ بِغَيْرِهِمَا.
وَأَنَّ الوَطَنَ لا يُصَانُ إِلاَّ بِوَحْدَتِهِ.
وَأَنَّ وَحْدَتَهُ لا تَكُونُ إِلاَّ بِتَوْحِيْدِ جُهُودِ أَبْنَائِهِ.
وأَنَّ قِيمَةَ الإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ بِهِ الإِنْسَان.

وَمِنْ هَذَا قَولُ الشَّيْخ مَحمُود سُلَيْمَان الخَطِيْب :

أَتَتَّخِذُونَ دِينَ اللهِ حِزْبًا***يُفَرِّقُكُم عَنِ النَّهْجِ الرَّشِيدِ
وَلَيسَ الدِّينُ تَفْرِيقًا وَبُغْضًا***وَتَكْفِيرًا وَنَقْضًا للعُهُودِ
وَقَدْ وَعَدَ الكِتَابُ إِذَا اجْتَمَعْنَا***وَآذَنَ مَا افْتَرَقْنَا بِالوَعِيدِ
وَأَينَ بِنَاؤنَا المَرْصُوصُ إِنْ لَمْ***نُعَالِجْ أُلْفَةَ الصَّفِّ البَدِيدِ
عُرُوبَتُنَا عَلَى الإِسْلامِ شَرْطٌ***لِتَحْصِيْنِ الدِّيانةِ مِنْ مَرِيْدِ
وَللأَوْطَان حَقٌّ لا يَفِيْهِ***صَحِيْحًا غَيْرُ تَوْحِيْد الجُهُود
وَلَكِنَّا بِحَمْدِ اللهِ قَومٌ***عَرَفْنَا مَوضِعَ  الخَطَرِ الشَّدِيدِ
سَنَبْطِشُ بِالمُرَاوِغِ وَالمُرَائِي***وَبِالمُسْتَعْمِرِينَ وَبِاليَهُودِ
وَيَبْقَى الدِّينُ وَالإِسْلامُ حُرًّا***عَلَى رَغْمِ المُنَاوِئِ وَالحَسُودِ6  

تُرَاثٌ لا يَرَى العَقْلُ فِي أَحْكَامِهِ خَطَرًا فِي اخْتِلافِ الآرَاءِ وَتَعَدُّدِ المَنَاهِجِ، فَتِلْكَ حِكْمَةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَطَبِيعَةُ دَرَجَاتِ النَّاسِ فِي التَّفْكِيرِ وَالقَنَاعَةِ وَالهَوَى.

فَاكْتَفَى بِكِتَابِ اللهِ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ  مِنَ العَفْوِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْ هَذَا الثُّرَاثِ قَولُ الشَّيخ عبد اللّطيف إِبراهيم:

إِنَّ دِينَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ السَّمْـ***ـحَةِ فِيهِ كِفَايَةٌ للعِبَادِ
كُلُّ قَولٍ بِلا دَلِيلٍ عَلَيهِ***مِنْهُمَا فَاطْرَحُوهُ تَحْتَ المَزَادِ7  

تُرَاثٌ نَأَى مَنْطِقُهُ عَنِ الاشْتِغَالِ بِالقِيلِ وَالقَالِ، وَتَكَلُّفِ تَتَبُّعِ السَّرَائِرِ، وَرَمْيِ التُّهَمِ يَمِينًا وَشِمَالاً.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ حُسين سَعّود:

وَأَينَ الدِّينُ مِنَّا إِنْ بَقِينَا***نَكِيلُ لِبَعْضِنَا تُهَمًا وَقَذْفَا
وَنَلْهُو عَنْ وُقُوفٍ مُسْتَمِرٍّ***بِوَجْهِ مَنِ اسْتَهَانَ أَوِ اسْتَخَفَّا8  

لِئَلاَّ يُفْنِيَ الإِنْسَانُ عُمُرَهُ الذّي سُيَسْأَلُ عَنْهُ، فِيمَا لا يَنْفَعُ وَلا يَشْفَعُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الجِدَالِ مَفْسَدَةٌ للعُقُولِ وَالقُلُوبِ.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ العَلاّمة الشَّيخ سُلَيمَان أَحْمَد:

إِنَّمَا القَولُ بِاعْتِزَالٍ وَرَفْضِ***يَقْتُلُ الوَقْتَ بَينَ رَفْعٍ وَخَفْضِ
هُوَ للشَّكِّ فِي الدِّيَانَاتِ يُفْضِي***هَكَذَا الحَالُ وَالحَقِيقَةُ تَقْضِي

وَسَجَايَا  الجِبِلَّةِ البَشَرِيَّهْ9  

وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْطِقُ شُيُوخِهِ:

وَلَكِنَّا بِحَمْدِ اللهِ قَومٌ***عَرَفْنَا مَوضِعَ  الخَطَرِ الشَّدِيدِ

إِنَّنَا نُؤْمِنُ أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيْمُ: أَنَّ كُلَّ فِتْنَةٍ مَذْهَبِيَّةٍ خَلْفَهَا كَفٌّ صَهْيونِيَّةٌ.

وَأَنَّ كُلَّ قِنَاعٍ عَرَبِيٍّ للطَّائِفِيَّةِ فَمِنْ خَلْفِهِ وَجْهٌ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الإِنْسَانِيَّةِ.

وَلا نُعَيِّنُ بِهَذَا أُمَّةً وَلا شَعْبًا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ مَنِ اخْتَلَقَ عَدَاوةً، وَأَوْقَدَ حَمِيَّةً لِغَيْرِ الإِنْسَانِيَّةِ. 

فَمَا أَصَابَ الإِسْلامَ مِنْ أَبْنَائِهِ، لَمْ يَكُنْ مِنَ الإِسْلامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِحْنَةُ الإِسْلامِ الّتِي بَيَّتَهَا عَدُوُّهُ، فَنَفَثَ فِيْهَا كَيْدَهُ سُمًّا، وَهَمَزَ فِيْهَا شَرَّهُ ظَنًّا، وَكَانَ تَصْدِيْقُهُ ضَرْبًا مِنَ الغَبَاوَةِ، وَوَهْمًا مِنَ التَّصَوُّرِ، وَخَطَأً فِي تَقْدِيْرِ الأُمُورِ.

وَفِي هَذَا المَعْنَى، قَولُ الشَّيْخ حُسَيْن سَعّود:

هِيَ مِحْنَةُ الإِسْلامِ لا سُنِّيُّهُ***يُطْفِي تَوَقُّدَهَا وَلا شِيْعِيُّهُ
للأَجْنَبِيِّ يَعُودُ رَسْمُ خُطُوطِهَا***وَالكَيْدُ يَسْهُلُ فِي الغَبِيِّ مُضِيُّهُ
وَالفَوْضَوِيَّةُ فِي الشُّعُوبِ نَذِيْرُهَا***وَمِنَ النُّهُوضِ إِلَى العَلاءِ نَعِيُّهُ
هَلْ مِنْ شِهَابٍ يَسْتَضِيءُ بِنُوْرِهِ***جِيْلٌ تَمَرَّسَ بِالظَّلامِ عَمِيُّهُ10  

تُرَاثٌ لا يَرَى أَهْلُهُ الخَطَرَ فِي اخْتِلافِ اثْنَينِ فِي الوُضُوءِ للصَّلاةِ، فَالمَذَاهِبُ التّي تَقْتَصِرُ عَلَى الاخْتِلافِ الفِكْرِيِّ تَزِيدُ الإِسْلامَ سَعَةً وَالعَقْلَ نَشَاطًا، فَإِذَا  خَرَجَتْ عَنِ الفِكْرِ إِلَى العُنْفِ صَارَتْ وَبَالاً.

إِنَّمَا الخَطَرُ مِمَّنِ اتَّخَذَ الإِسْلامَ مَطِيّةً للتَّفْرِيقِ وَأَدَاةً للتَّشَتُّتِ، وَذَلِكَ مَوضِعُ الخَطَرِ الشَّدِيدِ وَالدّاءِ القَاتِلِ.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ كَامل الخَطِيب: 

وَللسِّيَاسَةِ فِيمَا بَينَنَا سُفُنٌ***تَطْفُو وَتَرْسُبُ بَينَ الجَارِ وَالجَارِ
( فَرِّقْ تَسُدْ ) كُلُّ مَا تَحْوِي كِنَانَتُهَا***وَالحَتْفُ فِيمَا وَرَى مِنْ زَنْدِهَا الوَارِي

وَقَولُ الشَّيخ عليّ عبد الله:

(( لَقَدْ مُنِيَ المُسْلِمُونَ فِي أَزْمِنَتِهم التَّارِيخِيَّةِ بِأَحْوَالٍ عَنِيفَةٍ، أَدَّتْ بِهِم إِلَى الانْقِسَامِ وَالتّفْرِقَةِ وَاتِّخَاذِ كُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْهُم بِسَبِيلٍ.

وَلَو تَعَمَّقْنَا فِي دِرَاسَةِ العَنَاصِرِ التّي اشْتَرَكَتْ فِي ذَلِكَ، لَوَجَدْنَا أَنَّ الأَطْمَاعَ فِي اسْتِغْلالِهِم هِيَ العَامِلُ الأَسَاسِيُّ الوَحِيدُ الذّي عَصَفَ بِهِم وَجَعَلَهُم تَارَةً بِاسْمِ المَذَاهِبِ، وَتَارةً بِاسْمِ الأَحْزَابِ العَائِلِيَّةِ، أَوِ الاتِّجَاهَاتِ الطَّبَقِيَّةِ.
يَثُورُونَ بِبَعْضِهِم، وَيُعَنِّفُ الأَخُ بِأَخِيهِ، دُونَ أَنْ يَنْتَبِهُوا إِلَى المُحَرِّكِ الذّي يَدْفَعُهُم لِيُسَخِّرَهُم إِلَى غَايَاتِهِ.
وَمَا قَولَةُ: ( فَرِّقْ تَسُدْ ) عَنَّا بِبَعِيدَةٍ.

وَنَشَأَتْ مِنْ هَذَا وَذَلِك بَينَهُم حَالَةٌ لَيسَتْ مِنَ الإِسْلامِ فِي شَيءٍ، وَهِيَ تِلْكَ الكَلِمَةُ المُجْرِمَةُ التّي أَسْمَوهَا التَّعَصُّبَ............
وَتَمَادَتِ العُصُورُ وَتَقَلَّبَتِ الأَيَّامُ وَاللّيَالِي، وَإِذَا بِنَا لا نَفْهَمُ الدِّينَ إِلاَّ تَعَصُّبًا....))11  


ذَلِكَ الغَزْوُ الذّي هَجَمَ عَلَى عُقُولِ الأُمَّةِ فَتَغَلْغَلَ فِيهَا، وَأَفْسَدَ تَفْكِيرَهَا، وَشَوَّهَ خُطَاهَا فَتَعَرَّجَتْ طُرُقُهَا وَالْتَوتْ دُرُوبُهَا.

وَفِي هَذَا المَعْنَى قَولُ الشَّيخ مَحمود سُلَيمَان الخَطِيب:

تَأَبَّدَتِ الأَفْكَارُ فِي كُلِّ مُقْفِرٍ***فَصَارَتْ مِنَ الإِينَاسِ بِالدِّينِ تَنْفِرُ
وَمَا نَابَنَا الَغْزْوُ المُبَاشِرُ مِثْلَمَا***لَقِينَا مِنَ الغَزْوِ الذّي لَيسَ يُذْكَرُ12  

تُرَاثٌ يُحَرِّضُ طُلاّبَهُ عَلَى صَونِ لُغَتِهِم، وَحِمَايَةِ وَطَنِهِم، وَحِفْظِ هُوِيَّتِهِم.

تُرَاثٌ يُعَلِّمُ قَارِئَهُ أَنَّ الحُرَّ مَنْ ذَادَ عَنْ ثَقَافَتِهِ، وَنَافَحَ عَنْ أُمَّتِهِ، وَكَانَ يَدًا لِوَطَنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدًا عَلَيهِ.

وَمِنْ مَنْطِقِ هَذَا التُّرَاثِ، قَولُ الشَّيخ مُحمّد ياسين:

بَنِي وَطَنِي وَالحُرُّ يَدْأَبُ عَلَّهُ***يَسُوقُ إِلَى أَوطَانِهِ مَا يَزِينُهَا
تَنَادَوا جَمِيعًا وَاحفَظُوا اللُّغَةَ التّي***بِأَسْلافِكُم كَانَتْ تُنَاطُ شُؤونُهَا
وَأَنْتُم بَنُوهَا بَلْ حُمَاةُ ذِمَارِهَا***فَإِنْ لَمْ تَصُونُوهَا فَمَنْ ذَا يَصُونُهَا13  

وَقَولُ الشَّيخ عيسى سعّود:

وَطَنٌ مَا فَرَّقَ الدِّينُ بِهِ***إِنَّمَا التَّفْرِيقُ مِنْ فِعْلِ المِرَاءْ
إِنْ نَكُنْ فِي الدِّينِ نَبْقَى شِيَعًا***أَو لَسْنَا فِي مَبَادِيهِ سَوَاءْ
لُغَةٌ تَجْمَعُنَا فِي وَطَنٍ***هَبَطَ الوَحْيُ بِهِ وَالأَنْبِيَاءْ
وَهو الدِّينُ ضِيَاءٌ وَهُدىً***لَيسَ فِي الدِّينِ اخْتِزَالٌ وَالْتِوَاءْ14  

وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التُّرَاثِ مِنْ تَعَلُّقِ شُيُوخِنَا بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، أَنَّ الشَّيخ مُحَمّد حَسن شَعبان، أَقْبَلَ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ العَرَبِيَّةَ عَلَى دِرَاسَةِ اللُّغَةِ الفَرنسِيّةِ، وَحِينَ فَاقَ رِفَاقَهُ فِي دِرَاسَتِهَا، أَوقَفَهُ الأُسْتَاذُ حِينئذٍ حَتَّى يُدْرِكَهُ رِفَاقُهُ فِي الدُّرُوسِ، فَكَتَبَ عَلَى لَوحِ غُرْفَةِ الدَّرْسِ، أَبْيَاتًا، مِنْهَا:

لَيسَتْ فَرَنْسَا أُمَّنَا***فَعَلامُ حِفْظُ لُغَاتِهَا
أَسْطَارُهَا  مَنْكُوسَةٌ***نَكْسًا عَلَى هَامَاتِهَا
إِضْرِبْ بِهَا عُرْضَ الجِدَا***رِ وَوَلِّ عَنْ أَبْيَاتِهَا
وَارْغَبْ إِلَى لُغَةٍ هِيَ***السِّحْرُ الحَلالُ بِذَاتِهَا
عَرَبِيّةٍ تَجْرِي المَعَا***نِي الغُرُّ فِي حَلبَاتِهَا15  

تِلْكَ وِرَاثَةُ الأَبْنَاءِ مِنَ الآبَاءِ، وَذَلِكَ التُّرَاثُ الذّي عُرِفَ بِهِ المُجَاهِدُ الشَّيخ صَالح العليّ،  طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ.

وَبِهِ قَالَ الرّئيس هَاشِم الأتاسي:

((.. عَرَفْتُ الشَّيخ صَالح العلِيّ كَمَا عَرَفْتُ أَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَكْبَرْتُ فِي الأَبِ وَالابنِ رُوحَ الشَّهَامَةِ وَصِدْقَ الوَطَنِيَّةِ وَصَلابَةِ العُودِ.

فَإِذَا تَحَدَّثَ الخُطَبَاءُ وَتَغَنَّى الشُّعَرَاءُ بِمَنَاقِبِ هَذَا العَامِلِ المُجَاهِدِ، فَهُم يَتَحَدَّثُونَ عَنْ تُرَاثٍ خَالِدٍ، وَرِثَهُ الابنُ عَنِ الأَبِ، وَأَهْدَتْهُ السَّلِيقَةُ الكَامِنَةُ فِي الطَّبْعِ إِلَى الطَّبْعِ...))16  


عَلَى هَذَا كَانَ نُشُوؤنَا، وَمِنْ هَذَا كَانَ غِذَاؤُنَا، مَا تَخَلَّيْنَا عَنْهُ فِي زَمَنِ الغَاصِبِ العُثْمَانِيِّ، وَلا فِي زَمَنِ الغَاصِبِ الفَرَنْسِيِّ، أَفَنَتْرُكُهُ بَعْدَ هَذَا؟

وَمِنْهُ قَولُ الشَّيْخ مُحَمَّد حَمْدان الخَيِّر:

بَنِي الشَّامِ إِنَّا عُصْبَةٌ عَرَبِيَّةٌ***قَدِيمًا عَلَيهَا الجَورُ أَخْنَى وَخَيَّمَا
سَئِمْنَا مَع التُّرْكِ الحَيَاةَ وَلَمْ نَزَلْ***لِحَاضِرِنَا وَاللهِ أَقْلَى وَأَسْأَمَا
وَلَكِنَّنَا لَمْ نَنْسَ مَعْ مَا أَصَابَنَا***تَنُوخًا وَغَسَّانًا وَقَيْسًا وَجُرْهُمَا
يَحِنُّ إِلَى أَرْضِ الجَزِيرَةِ نَشْؤنَا***وَيَهْفُو إِلَى أَخْبَارِهَا مُتَنَسِّمَا17  

أَمَّا إِطْلاقُ كَلِمَة ( الأَقَلِّيَّة ) عَلَى المُسْلِمِينَ العَلَوِيِّينَ، فَذَلِكَ مَا لا نُقِرُّهُ وَلا نَعْتَرِفُ بِهِ؛ لأَنَّ العَلَوِيِّينَ هُم عَرَبٌ وَسُورِيُّونَ وَإِسْلامٌ، وَتَرْبُِطُهُم بِهَذِهِ الكُتَل الثّلاثِ كُلُّ الرَّوَابِطِ المَتِينَةِ...
رِسَالَةُ عَلَوِيِّي لِوَاء الإسكندرون إِلَى المُفَوّض السّامِي فِي 4 آذار سَنَة 1936م


 
 

  • 1كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 159.
  • 2تحف العقول، ما رُوِيَ عَنه في قِصار المعاني.
  • 3كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 185.
  • 4ديوان الخطيب ص 87.
  • 5مجلة النهضة 83، العدد الثاني كانون الأول 1938م.
  • 6ديوان الخطيب ص 153.
  • 7التُّراث الأَدبيّ للعلاّمة الشّيخ عبد اللّطيف إبراهيم 1\347.
  • 8عقد الجمان في إحياء ذكرى العلامة الشيخ يونس حمدان 155.
  • 9كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 130.
  • 10من قصيدة له رثى بها شاعر العربية الأستاذ بدوي الجبل.
  • 11من كلمته في افتتاح مسجد الإمام عليّ (ع) في طرابلس سنة 1964.
  • 12ديوان الخطيب 276.
  • 13مجلة النهضة 171، العدد الرابع شباط 1938م.
  • 14الإرشاد العدد 921، 10\تشرين الثاني \1947.
  • 15نفحات العرفان ص 17.
  • 16تكريم المجاهد الشيخ صالح العلي.
  • 17ديوان الشاعر الشيخ محمد حمدان الخير 1\343.