5- في القول على مسؤولية النفس, والرد على أهل التعطيل والزندقة.

Submitted on Tue, 12/10/2010 - 17:40

قال بعض العلماء:
أن الإنسان الذي يُسيء استعمال حريته على الأرض, ومن يتصرّف برداءة ويخضع بإرادته إلى أمياله وشهواته القبيحة, ويُخالف النظام الأدبي الذي سنّه الخالق عز وجل وأوجبه على خليقته, فيستحق أن يُعذّب بما أخطأ به وهو يُجازى بعمله, فتنزل به الطبيعة التي أهانها والأعضاء التي أساء استخدامها كاملة العقاب والقصاص, إذ ينال الجسد ما يُصيب النفس لأنه مسؤول معها بالأعمال البشرية, فإن كان صالحاً فقد غدا آلة البر والصلاح, وإن أدرك قدر الغلبة والإنتصار - ألا يستحق الجندي أن يشترك بجزء مما يُحرز من الجَزاء قائد الجيش بعد إحرازه الظفر - ومن جهة أخرى: أما ينبغي أن الجسد الذي يكون قد استَخْدَم النفس في جميع حالاتها مثل ذلك : أن النفس عند صلاتها وابتهالاتها يرفع الجسد اللحظ واليدين إلى العلاء, فبينهما إذن ارتباط داخلي. وكذلك أما ينبغي أنّ الجسد الذي يكون قد استخدم النفس آلة للشهوات والآلام القبيحة يشترك بجزء من العذاب. إن العقل يوجب هذا.

قال أحد الكتبة:
كلٌ يتجازى بعمله وليست المسؤولية على أحدهما بأقل مما هي على الآخر فيُعاقب كلاهما إذا استحقا العقاب, ويُجازيَان بخير المكافآت إذا استحقا الجزاء.
أوَليس من العدل أن يكون لهما مقدار واحد بعينه أنه ليشق على النفس أن تنفصل عن جسدها وهو خرقة ولكنها عزيزة فيميلان إلى البقاء مع بعضهما, ومن البديهي أنهما يمكُثان في الحياة العتيدة مُشتركين يقبلان إما العقاب وإما الثواب وهذا مذهب القائلين بالمعاد الجسماني الروحاني.

وقال (فكتور هوغو) : كيفما أجلت النظر في جهات الحياة ترى آثار العقاب.

وقال أحد الكتبة: إن الحياة كجبل نار تُغطّيه الشقوق.

وقال غيره: إنّ الخطيئة لها في ذاتها على هذه الأرض عقاب وقصاص.

وعلى هذا الزعم ظن علماء الأجيال الوسطى أن المطهر في وسط الأرض على مقرُبة من جزائر الباري فساق بعضهم الوهم إلا أنه كان يسمع تنهدات الأنفس تتصاعد من فوهة بركان متأجج.

وإنّ لـ ( دانته ) الفيلسوف كلاماً غريباً في بابه عن الكواكب والأجرام السماوية.

وكذلك مذهب مناجات الأرواح وأصحابه فهم يُسَلّمون بوجود النفس بعد الموت إنما في حالة الجَوَلان والتِيه وهي تنتقل بواسطة فاعلية سِريَة من محل إلى آخر مشاركةً الأحياء فتبلى الرغائب بالمجاوبة على الأسئلة التي تلقى عليها.

وكذلك مذهب التناسخيين القائلين بنقل النفس بالأبدان إلى أن ترجع إلى الأفلاك العُلوية. وهذا يُقرّب جداً تصوُّره إلى ما دار على الألسنة في الأعصر المتوسطة إذا أريد به نوع من المُطهر - فيه تتعرى النفس من أخلاقها الذميمة الخشنة وتتطهر من أدناسها بواسطة توبيخ الضمير والتفكير.

قال أحد الفلاسفة:
أن المجازات التي يُجازى بها الأبرار هي السماء, وإن السماء هي عبارة عن إدراك الحقيقة السامية والحَسَنْ الفائق. إنّ السماء هي السعادة الغير المتناهية التي تدركها النفس وترجع أبداً إلى حضنها وهذا هو الفردوس.

وقال فيلسوف إفرنسي:
ما هي جهنم يا تُرى؟ ليست سوى فِقْدُ الحَسَن والجَمَال وخُسران الخير السامي الذي لم يؤهل الإنسان نفسه لرؤيته المقدسة هي الحق الذي أضعناه وما من وسيلة لاسترجاعه لأن الإنسان تهوّر في لجة الكذب والبهتان. والسعادة الإلهية تُناجي الهالك قائلة إنك لست تحوزني قط لأنك فَضَّلتَ عليَّ وأنت على الأرض سعادة يومٍ واحدٍ وثمالةَ بُرهةٍ ضِدَّ تَعَقلك وضِدَّ حِسّكَ السليم وضِد حُريتك, هاك السماء وهاك جهنم.

ومن هذه الأدلة والبراهين, يتبيّن لنا أن النفس موجودة خالدة لا يطرأ عليها العدم وإنها مسؤولة عما عَملته من خيرٍ ومن شرٍ وإن التعاليم السطحية التي جاء بها علماء المادة وتشبثوا بها على سبيل التقليد الأعمى بعيدة عن التعمق, وكل ما كان بعيداً عن التعمق كان سهل المنال ولكن ما الإنتفاع به ما دام لا يحل معضلاً ولا يكشف خفياً ولا يؤيد حقيقة. والحق الصريح أن من قال بأقاويلهم وامتطى سبيل أباطيلهم كان خزعبيلاً يتضمن شناعات وأباطيل.

وإنما طوّلنا الكلام في ذلك تطويلاً لأن فلاسفة هذا الزمان ضللوا البُلّه تضليلاً, وقد عوّل السفهاء على خرافاتهم تعويلاً, وإن لم يجدوا عليها دليلا,ً وزعموا بأنهم أتقنوا الحكمة تحصيلاً وتكميلا مع أنهم لا يفقهون إلا قليلاً.

وبعد هذا وذاك فلنختم هذا الباب في الرد على قصيدة لبعضهم 1 ترامت إلينا من مجلة النهضة في طرطوس تحت عنوان ( خلود النفس ) هدفها إثبات مذهب الماديين ودحض حجة أصحاب النواميس 2 والشرائع والكتب المقدسة ومطلعها :

غلــط القائــل أنــــا خــالدون   كلنـا بعد الردى هيُّ بن بَـي

ومنها :

زعموا الأرواح تبقى سرمـدا   خدعونا نحن والشمـع سواء
يلبــــــث النـــور بهــا متقــدا
  وإذا ما احترقت باد الضيــاء
أيـن كـان النـــور أنّى وجــدا
  كيف ولّى عندما زال البنـــاء
شمعتـي فيها لطلاب اليقيـن
  آيــة تدفـع عنهـم كـــل غــــي

ومنها:

ليست الروح سوى هذا الجسد   معـه جــاءت ومعــه ترجــــع
لم تكن موجودة من قبل وُجِــد
  ولهـذا حيـــن يمضــي تتبـــع

ومنها:

لــو تكون الروح ما لا يضمحــل   مـا جزعنـا كلمـا جســم همــــد
لــو تكون الروح جسماً مستقــل
  لـرآهـا مـن رأى هــذا الجســـد
كل ما في الأرض من عين وظل
  سوف ينحـل كمــا انحـل الزبد

ومنها :

ليت شعري أي خلــد للبــذور   بعـد أن تلقـى بنــار لافحــــة
قل لمن يخبط في ليل الظنون
  ليس بعد الموت للظامئ ري

ومنها :

مثلمـا يذهب لــون الورقــة   عندما تيبس في الأرض الأصول
مثلمــا يفقد نـــور الحدقــة
  حيــن أقضي هكذا نفسـي تــزول

ومنها :

أنا بعد الموت شيئاً لا أكـون   حيث إني لم أكن من قبل شيء

ومنها :

إيــه أبناء الثـرى نســل القــرود   عللـــوا أنفسكـــم بــالترهـــــات
ألبسوا في صحوكم ثوب الجمود
  واحلموا في نومكم بالمعجزات
فــسيأتـي زمــــن غيـــــر بعيـــــد
  تتعـــادى بينكــم فيـــه آيــــــات
إذ يحـــل الله فـي مـــــاء وطيــــن
  فيـراه الشيـخ والشـاب الأحـي

ولما عَلِمْتُ أنّ من يَصبر على الجور ولم يتمرد على الظلم يكون حليف الباطل على الحق, وشريك السفاحين بقتل الأبرياء, فحينئذ دفعتني الحَميّة الدينية والغيرة الأدبية إلى الرد على هذا الشاعر المادي بهذه القصيدة وسميتها : "ا لصاعقة المحرقة في الرد على أهل التعطيل والزندقة" وهي هذه :

كــذب القائــل إنـــا زائلــون   كلنا بعد الردى حي بن حي 3
زعمـوا الأرواح تفنـى أبــداً
  ظلموها نحن والنجم سـواء 4
تصحب الأرواح هذا سرمدا
  وإذا ما انفصلت باد البنـــاء 5
مثل نور الشمس لما وجـدا
  أنعـش النبـت حيـــاءً ونمـــــاء
شمسنا فيها لطلاب اليقيـن
  آيـــة تدفـــع عنهــم كــل غــــي

يزعمون الروح في هذا الجسد
  معـه جــاءت ومعـــه ترجـــع
لــم تكــن موجودة قبــل وُجِـــد
  ولهـذا حيــن يمضــي تتبــــع
فمن الــزور المُوَشّــى والفنـــد
  قولهم هذا وأنّى تصـــــرع 6
وهي ظل السابقيــن اللاحقيــن
  فهم شبح وهي منهم كفــي 7
لو تكون الروح شيئاً يضمحل
  ما أتـى فيهــا كتـــاب ودليـــل

إنهــا روح بــجسم مستقــــل
  ومتى مـا فســـد الجسـم تحـــول
إنمـا النفس شعـاع فوق ظـل
  فـهو ينحـلّ كمـا انحـلّ الأصيــــل 8
ولئن صـح بــأنــا منشــرون
  لم يجز من بعد ذاك النشــر طــي 9
لو تكون الروح مثل الرائحة
  كانت الأعراض في الجسم جواهر 10
أو تلاشى البذر نــار لافحــة
  مـا انثنت أركانهـا نحـو العناصــر 11

تترك الجسم وتمضـي نازحـــة
  مثلمـــا تتركــه هـذي المشاعــر
حيثمــا كانت من البـدء تكــون
  عندمــــا تخلــص مــن داء دوي
قولهـم نحــن كلـــون الورقـــة
  حينما تيبس في الأرض الأصول
مثلمـــا يفقــد نـــور الحدقـــــة
  حيـن نقضي هكذا نحــن نـــزول
كــتلاشي الشمعــة المحترقـــة
  نتلاشى بيــن ضحـــكٍ وعويــــل

كذبوا البرهان جاؤوا بالمجـون
  جعلـوا كــل الورى هَــي بن بَـي 12
إنمـا الألوان في الجسم عـرض   ليت شعري كيف يحكي الجوهرا
إن نـور العين في العين نبــض
  من شعـاع النـور عنــه أبصـــرا
وبياض النور في الشمع فرض
  مـن سعيـر النـــار فيــه أسعــرا
كنت يـوم الزرو شبحــاً مبهمــاً
  حائــــراً لمــا دعانــي الصانـــع

جئت للتمحيص في الأرض كمـا
  لــم يكــن لــي غيــر هذا شافــــع
فـأنــا عن ظــل سكـــان السمــا
  فــلذا إنــــي إليهـــــم راجــــــــــع
كيف بعد الموت نفسي لا تكون
  حيث جسمي لم يكن من قبل شيء
لـو جهلنا ما الذي قبل الوجـود
  لجهلنــا مـــا الذي بعـــد الفنــــــاء
نحن لـــو كنـا كمـا قالـوا نبيــد
  مــا سعينـــــــا لـــصلاح وتقــــــاء

إنمــــا القــول بـأنــا للجمــــــود
  فكــرة أوجدهـــا أهـــل العمــــاء
نعشـق الدنيـــا لأنـــا خــــالدون
  والأمانــي حيــة فــي كــل حـــي
زعموا الإنسان من نسل القرود
  فـترقـــى حيوانــــــاً ناطقـــــــــاً 13
كذبوا الرسل ومـالــوا للجحــود
  ونفقــــوا المخلـــوق ثم الخالقـا
ثــم قالوا أنــــه غيـــــر بعيـــــد
  يتجلـــى الله عبـــــداً رازقــــــــا

إذ يحـــل الله فــي مـــــاء وطيــــن
  فيــراه الشيـخ والشـاب الأحـي 14
جهلــوا العلـم ولم يدروا الحقيقـــة
  وتخطـوا عـن طريـق الفلسفــة
عبثوا في الدين مانوا في الطريقة
  ثم جـاؤوا مــن مضــل معسفــة 15
نبذوا الخالــق عاثـــوا بــالخليقــة
  ضلــة جــاءت بجهـــل وسفـــه 16
كلمــا ســروا ومـــا لا يكتمـــــون
  مــن هـراء والكلام الحـــي لــي 17

إنمــــا الإنســــان روح وجســـد
  فــليقل ذو بــاطل مــا عنَّ لــه
فــإذا مــا انفصلـــت عنـه فســـد
  وهي فيه حلقة مــن سلسـلــة
مدّهــــا الخالـــق منـــه بالمـــدد
  وإذا مـــا تـــم فيهــــا عملــــه
ردّهـــا نحـــو مداهـــــا لتكـــون
  في نعيم أو شقـاء وهـي حــي
يزعمون الكون من فعل الطبيعة
  هل رأيتم طبعة من غير طابـع

ثم قالوا صدفة هـذي الصنيعــة
  ما رأينا صنعة من غير صانع
ثم قالوا بدعة هــذي الشريعــة
  حين قلنا أرسل الرحمن شارع
إنــــــــا لله وإنــــا راجعــــــون
  هي إليــــه أيهـــا الجاحــد هي 18
وصريـح القول في معنى الأحد
  فهــو علـــم لا يكلفـــه شـطــط
صـدر الواحـد عنـــــه بــالعـدد
  ثــم قــام الشفــع والوتــر فقط 19
جــاءت الأعــداد عنــه والقـدد
  لا تشكـــنَّ فمـن شــــك هبـــط
ذا دليـــل الحكمــاء الأقدميـــن
  لوجــود الواحـــد الفـرد العلـي

  • 1 المراد به الشاعر الشهير إيليا أبو ماضي اللبناني.
  • 2 الناموس هو الشرع الذي شرعه الله.
  • 3 حي بن حي أي كلنا أحياء بعد الموت.
  • 4 إن معنى هذا البيت مأخوذ من أقوال الحكماء في أن النفوس البشرية منبثقة عن ظل عالم الأنوار فهي باقية ببقائه كما أن الظل باق ببقاء العمود.
  • 5 قولنا هذا أي هذا الجسم حذف لفظ الجسم لضرورة الوزن وللإكتفاء باسم الإشارة كما في قوله تعالى حتى توارت بالحجاب أي الشمس. ومنه: واسأل القرية : أي أهلها.
  • 6 يُقال وشي الثوب: نقشه. ويكون من كل لون. أي أن من الزور الملون قولهم أن النفس موقوفة على العدم.
  • 7 إن معنى هذا البيت مبني على القاعدة الت فرضها أفلاطون بقوله أن العالم العلوي انفصل عنه العالم السفلي وقال أن هناك عالم مجرد يماثل عالم المادة المركبة ومن هذا العالم اهبطت النفس الإنسانية لتبتلي وتمحص.
  • 8 الأصيل ساعة من ساعات النهار.
  • 9 الطي والنشر نقيضان ويُكنى عنهما بالموت والحياة.
  • 10 أي أن الروائح المنبثة في زهور النبات لو كانت كالنفوس كانت جواهر روحانية وقد تحقق أنها أعراض زائلة قائمة بغيرها ولا يسوغ تشبيه الجواهر بالأعراض.
  • 11 تلاشي الشيء هلك وعدم والعناصر: النار والهواء والماء والتراب. أي أن النار لو كانت كما يزعمون تلاشي الأجسام ما رأينا مركبات الأجسام تنحل إلى حيزها الطبيعي بعد فساد الجسم فالحرارة إلى عنصر النار والرطوبة إلى الهواء والبرودة إلى الماء واليبوسة إلى الأرض.
  • 12 هي بن بي في القاموس كناية عن الذي لا يعرف ولا يعرف أبوه.
  • 13 أي التحقوا بمذهب داروين القائل أن الإنسان كان من فصيلة القردة فلا زال يتطور من طور إلى طور حتى لحق بالإنسانية وهذا مذهب الإرتقاء والتطور.
  • 14 الأحي مصغر الأحوي وهو من كان يضرب إلى خضرة أو هو ذو حمرة ضاربة إلى السواد أي الذ من شأنه إبطاء الشيب يقول عن قريب كيف تأخذ الأرض زخرفها إذ يملكها رجل من ماء وطين أي بشري فتعبده الناس كما عبدت أهل مصر فرعون.
  • 15 عبثوا بمعنى لعبوا ومانوا كذبوا والمضل إسم مكان من ضل وهو القفر الذي لا يهتدي مسالكه والمعفسة المجهلة من الأرض يضل سالكها أي يخبط فيها على غير هدى.
  • 16 عاثوا أي فسدوا.
  • 17 الهراء الكلام الذي لا معنى له والكلام الحي لي في القاموس مأخوذ من قولهم لا يعرف الحي من اللي أي الحق من الباطل.
  • 18 هي هي في القاموس كلمة مكررة لطلب الإقبال إلى الذكر بسرعة كأن المتكلم بها يزعج السامع ليقبل إلى الفعل.
  • 19 الوتر بالقاموس بالكسر ويفتح الفرد ما لم يتشفع من العدد ويوم عرفت أيضاً وعند المفسرين. الوتر هو الله عز وجل وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر والوتر عند الصوفيين الذات الأحدية والشفع في القاموس خلاف الوتر وهو الزوج شفعه كمنعه ويوم الأضحى والشفع والوتر الخلق كله لقوله ومن كل شيء زوجين وهو الله عز وجل لقوله ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وقال أبو سعيد الخدري : الشفع هو الخلق كله, الإيمان والكفر والهدى والضلال والسعادة والشقاوة والليل والنهار والأرض والسماء والشمس والقمر والبر والبحر والنور والظلمة والجن والإنس (محيط المحيط).