4- في الدليل على روحية النفس.

Submitted on Tue, 12/10/2010 - 17:40

اعلم أن روحية النفس لمسألة خطيرة وذات شأن مسألة الحياة البشرية, وقد تنوعت الجوابات على هذه المسألة إذ منهم من يقول: أن الحياة هي علة مبدأ سرّي لجميع أفعالنا ولكل الحوادث العضوية.
ومنهم من قال: إن مجموع المُرَكب الحيواني هو عبارة عن آلة أو مَكنة بشرية رَكّبها الخالق أحسن تركيب.

ولقد سلّم بعضهم بوجودين متحابَيْن: وجود النفس ووجود الجسد.
ويوجد بين هذين الوجودين المستقل أحدهما عن الآخر سِرّية من الحركات المتماثلة والمتقابلة والباري سبحانه رتّب لهما نظاماً وارتباطاً عجيبين.

وقال العلامة (ليبنتز) بعد أن أمْعَن في هذا التصور ورَدَّدَه بفكره دافع عن مذهب اتحاد النفس والجسد اتحاداً كاملاً واتفاقهما إلا أنه قد استولى عليه القلق عند تأمله بالجسد الذي يصل المادي بالروحي والبسيط بالمركب فحلاً لهذه المشكلة ذهب إلى أن الله عز وجل منذ الأزل قد ركّب هاتين الساعتين أي ساعة النفس وساعة الجسد بنوع أنهما يمشيان دوماً باتفاق معينين الساعة في حينها, وهذا مذهب الوفاق.
غير أن علماء (الفسيولوجيا) من الماديين قد بحثوا في هذه المشكله فذهبوا مذاهب مختلفة منهم العضويون القائلون بأن الحياة ليست سوى مظاهر أحوال وشؤون مرجعها إلى المادة العضوية وليس هذا تحديداً بل تقرير وتحقيق لعمل خارجي.

أما الحَيويُّون فيُسلّمون بوجود نفس في الحَي ولكن لا يُذعنون بأن يكون لهذه النفس ذات الطبيعة التي للقوة الفكرية – فيقولون أنه يوجد نفسان أحدهما نامية والثانية تتصوّر وتحس وأخيراً أن النفسين يفترضان فينا مبدأ واحداً يجمع المبدأ الحي وهي التي تُدبّره بكل أعماله ومظاهره المختلفة. فتعيّن أن المبدأ الحي هو قوة وحيدة تسود المادة تماماً وكمالاً وذلك بدليل أن الجسد لا يحوي النفس بل بالعكس أنّ النفس هي التي تحوي الجسد وتضبطه بنوع خَفي ولا يبقى جزء منها مهما كان صغيراً إلا تستولي عليه فليست هي مُحتواة هنا أم هناك في القلب أو في أجزاء الدماغ كما زعم (ديسكرت) بل هي في كل موضع يظهر فيه أثر الحياة وهي وحيدة غير قابلة القسمة ولا الإنحلال, وتوجد في جميع جهات المركب فتُحييه وتقوم بوجوده وعنه تصدر كل الحوادث والمظاهر في الرتبتين الطبيعية والكيماوية والنامية والحسيّة فتقرر أن النفس ليست بسيطة فقط بل هي (روحية) أيضاً وتفعل أفعالاً تفوق طور المادة فلها معالم عقلية رفيعة لا تطاول للمادة إليها.

إنّ النفس هي فاهمة والفهم يُناقض على خط مستقيم الإمتداد وأقرب شاهد ودليل على ذلك أنه بينما الحواس تقدّم لنا التصورات المُرَكبة نرى العقل يكشف لنا عن التصورات المجردة, إن الحواس ترينا الموضوع العَرَضي, وأما العقل فيرينا الذاتية الضرورية وغير (المتغيرة) أي (الطبيعة الداخلية) مُجردة عن ظروف الزمان والمكان, وبعض حالات أخرى خصوصية تؤلفها وتشخصها. وأخيراً على درجة من درجات المعرفة البشرية فعقلنا يفهم هيئات الكمال المطلقة التي هي غير منظورة تماماً وغير مادية والتي لا يمكن تحققها في الخلائق: (الحق) (الخير) (الجمال) (العدل) (القداسه) (الأبدية) المطلق غير المتناهي (لله نفسه) عز وجل وبفضل هذا النور السامي نرى نفسنا تترقى من أفق الأعمال المميزة إلى فلك التصورات المَحضة, ومن ساحة المادة إلى أعالي الروح فوق الحس, ومن العَرَضي والإضافي إلى الضروري المُطلَق ولهذه التصورات المَحضة علاقة ضرورية فيما بينهما نفهمها سريعاً ونُسَمّيها حقائق أوّلية ومبادئ أوّلية وهي تظهر لدى نفسنا بلحظة تُبرز لنا هذه الحقيقة الأولية وهي أن الكل أعظم من الجزء.

وخلاصة القول من هذا الفصل:
إنّ الجسم البشري لا زال يتجدد غالباً وبعد مضي زمن (ما) يتغيّر بالكلية - ولما كان وراء هذا التغير الذي يطرأ على صورة الجسم توجد الأنانية التي تقيم الشخصية الثابتة, فالشخصية تستمر مُطلقا, وهذه الأنانية هي عبارة عن (النفس) الوحيدة البسيطة الغير القابلة التجزوء والإنحلال. وعليه نقول: أنها روحية. وهذا موضوع المقالة التابعة إن الأنانية هي وحدة الوجود بين هذه التغيرات والتقلبات المستديمة.

وبذلك يتقرر من هذا الفصل:
أن النفس هي صورة الجسد. فرسمها ظاهر عليه, والوجه هو لسان حالها وبذلك يقول العالم (لاكوردير) أن وجه الإنسان فيه الجمال البديع لأنه مركز النفس.
ولما كانت النفس مُرتبطة إرتباطاً عَميقاً مع الجسد فلا يَحدث ضعفٌ في الجسد إلا ويؤثر في النفس, ولا نقول أنّ النفس من طبيعة الجسد بل هي متحدة معه أشد الإتحاد, ولهذا يُقال أن أهم شيء في الإنسان صفاته النفسانية التي لا يمكن تعليلها بأنها قبس من أمر الله, ومن ذلك أن عِلْمَ الإنسان وبيانه يدلان مباشرة على الله من قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ*) الرحمن\1...4.

إنّ علم الإنسان وإرادة الإنسان وقدرة الإنسان تدل بشكل واضح على تميّز الإنسان على المادة, وإنّ المادة لا يُمكن أن تُعطيه عِلماً ولا إدراكاً ولا قُدرةً ولا إرادة. إنّ الله وحده هو الذي يقدر أن يُعطي الإنسان هذا العلم من قوله تعالى:

( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) البقرة\31.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)
البقرة\29.
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)
هود\61.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ)
السجدة\9.
(أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)
البلد\8-9-10.

وأما الأخلاق فإنها تلك المشاعر التي تُنتج سلوكاً, وتحل هذه المشاعر عالم النفس عند الإنسان أنها عالم كامل لا نعرف عنه إلا آثاره التي نحسها في أعماقنا, وتظهر آثاره على صفحات وجوهنا أو على ألسنتنا أو أيدينا, وهي مشاعر الرحمة والقسوة والعفو والإنتقام والذِلة والعِزة والعَدل والظلم والأمن والخوف والحرب والسلم والغضب والحلم والجبن والشجاعة والكبر والتواضع والجبروت واللين والهداية والضلال والقبض والبسط والإنخفاض والإرتفاع والحب والبغض والحقد والغل والكراهية والحسد ونُسَاءُ ونَبكي ونُسَرُ فنضحك ونرجو ونيأس.
وهذا كله من صفات النفس لأنها أغمض مافي الإنسان من قوله تعالى:
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الإسراء\85.
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)
الشمس\7-8.

فلو فكر الإنسان بعمقٍ ونظر بإنصاف إلى نفسه سواءً كان عالماً أو جاهلاً فماذا يرى, أن الله يخاطب الإنسان في القرآن: ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات\20-21.
ففي النفس آيات تدل على أن هذا الكون عجائب غير مادية تجعل الإنسان قريباً جداً مما وراء المادة, فالتنويم المغناطيسي والطرح والروحي وحوادث الرياضة الروحية التي يُبصر أصحابها بلا إبصار. فهذه المعاني تدل على أن هناك شيئاً غير المادة في هذا الوجود, وحوادث قراءة الأفكار وما يحيط بها كلها بعمق, إلا أن الإنسان ليس بمادة فحسب فتبين أن الإنسان أعظم ماخلق الله تحت فلك القمر, ولذلك كان أبدع ما يُعْرَفُ الله به, فبقدر ما يَعرف الإنسان نفسه يَعرف ربه, وبقدر ما يَجهل نفسه يَجهل ربه ولذلك كانت الحكمة التي تقول ( من عرف نفسه عرف ربه) من أصدق الكَلِم التي صاغها عقل الإنسان.