الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 11:33

أوضحت في الفصل السابق بأنّ المسلمين اختلفوا في مسألة التحسين والتقبيح, وهل هما عقليان أم شرعيان, وبيّنت باختصار آراء كل طرف منهما , وقد قلت بأنه نتج عن هذا الخلاف خلاف ثانٍ يتعلق بمسألة الجبر والتفويض , وهذا الخلاف أدّى بدوره إلى انقسامات عديدة:

  • فمنهم من قال بالجبر : أي أن الإنسان مجبور في فعله , مسلوب الإرادة والاختيار فيه بل الإرادة في كل فِعلٍ يُريده الإنسان إرادة الله, وكُلُّ فِعلٍ يفعله الإنسان فِعْلُ الله. وهم الأشاعرة.
  • ومنهم من قال بالتفويض : بمعنى أن الإنسان مختارٌ في أفعاله, مستقلٌ في اختياره استقلالاً تاماً عن القدرة والمشيئة الإلهية. وهم المعتزلة.
  • ومنهم من قال بالأمر بين الأمرين : وهم الذين نهلوا من ينبوع أهل العصمة ومعدن الحكمة ونحن والحمد لله من أتباعهم ومقلّديهم عليهم السلام لا نخرج عنهم قيد أنملة لا في الأصول ولا في الفروع ولا في الآداب.
    • أولاً: لأن الله أمر باتّباعهم والأخذ عنهــــم.
    • ثانياً: لأنهم معصومون, والمعصوم في منهاجنا لا يصدر عنه الخطأ مُطلقاً, وخصوصاً فيما يتعلق بالعقيدة التي هي سلم النجاة.

ولمّا كانت هذه المسألة من الأصول الإعتقادية والمباحث الكلامية المتعلقة بالعدل الإلهي والذي هو من صفات الكمال له تعالى رأيت بأنّ من السلامة أن أنقل جوابها عن أهل العصمة عليهم السلام نقلاً كاملاً لأنه ليس لي ولا لغيري بأن يُدلي بمزيد على ما قالوه وأوردوه بهذا الخصوص وغيره, وأنّى لنا ذلك وقد أشبعوا هذه المسائل شرحاً وتحليلاً وبحثاً وتعليلاً بما لم يتركوا مجالاً لأي زيادة على ما أوضحوه.

أما فيما يتعلق بهذه المسألة فقد أورد إبن شعبة الحرّاني في كتابه ( تحف العقول ) نصّ الرسالة التي أملاها الإمام الهادي عليه السلام في الرد على أهل الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين, وإنّ هذه الرسالة تُعَدّ من أمّهات الرسائل في هذا المجال, والنهاية لمن طلب فقه المقال, ونثبت منها موضع الحاجة:
قال عليه السلام بعد مقدمة طويلة لا تخلو من فوائد جمّة :
(وإنّما أوردنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما أوردنا وحجة لما نحن مبيّنوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين وبالله العون والقوة وعليه نتوكل في جميع أمورنا) فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه السلام:

لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين منزلتين:
وهي صحة الخلقة, وتخلية السَّرَب, والمهلة في الوقت, والزاد مثل الراحـــلة, والسبب المهيج للفاعل على فعله
.

فهذه خمسة أشياء جمع الصادق عليه السلام جوامع الفضل, فإذا نقص العبد منا خلةً كان العمل عنه مطروحاً بحسبه, فأخبر الصادق(ع) بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ونطق الكتاب بتصديقه فشهدت بذلك مُحكمات آيات رسوله, لأن الرسول صلى الله عليه وآله عليهم السلام لا يردّون شيئاً من قوله وأقاويلهم حدود القرآن فإذا وردت حقائق الأخبار والتمست شواهدها من التنزيل فوُجِدَ لها موافقاً وعليها دليلاً كان الإقتداء بها فرضاً لا يتعداه إلا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب (أي المقدمة) ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق(ع) من المنزلة بين منزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدّق مقالته في هذا.

وخبر عنه أيضاً موافق لهذا أنه سُئِلَ عليه السلام: هل أجبر الله العباد على المعاصي؟
فقال الصادق(ع): هو أعدل من ذلك.
فقيل له: فهل فوّض إليهم؟
فقال(ع): هو أعز وأقهر لهم من ذلك.

وروي عنه أيضاً قال (ع): الناس في القدر على ثلاثة أوجه :

  • رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه فقد وهّن الله في سلطانه. فهو هالك.
  • ورجل يزعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وكلّفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه. فهو هالك.
  • ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن شكر الله، وإذا أساء إستغفر الله، فهذا مسلم بالغ.

فأخبر عليه السلام أنّ من تقلّد الجبر والتفــويض ودان بهما فهو على خلاف الحق, وقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ وإنّ الذي يتقلّد التفويض يلزمه الباطل. فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.

ثم قال (ع):

وأضرب لكل باب من هذه الأبواب مثلاً يُقرّب المعنى للطالب ويسهّل له البحث عن شرحه, تشهد به محكمات آيات الكتاب وتحقّق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله التوفيق والعصمة.

♦ فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أن الله جلّ وعزّ أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ الكهف/49.
وقوله: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ الحج/10.
وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ يونس/44.
ومع آيٍ كثيرة في ذكر هذا. فمن زعم أنه مُجْبَرٌ على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وقد ظلّمه في عقوبته. ومن ظلّم الله فقد كذّب كتابه, ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأمة.

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبداً مملوكاً لا يملك نفسه ولا يملك عرضاً من عرض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه فأمره على عِلمٍ منه بالمسير إلى السوق لحاجةٍ يأتيه بها ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته, وعلم المالك أنّ على الحاجة رقيباً لا يطمع أحدٌ في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن, وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعـــدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه, على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه, وعِلمٍ أنّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه ذلك, فلما صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعاً يمنع منها إلا بشراءٍ وليس يملك العبد ثمنها, فانصرف إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه.
أليس يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أن عبده لا يملك عَرَضاً من عروض الدنيا ولم يملّكه ثمن حاجته؟
فإن عاقبه ظالماً متعدياً عليه مبطلاً لما وصف من عدله وحكمته ونصفته.
وإن لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة تعالى عما يقولون علوّاً كبيرا.
فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ونسبه إلى الجور والعدوان, إذ أوجب على من أجبر العقوبة, ومن زعم أنّ الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله أن الله يدفع عنهم العقوبة.
ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذّب الله في وعيده حيث يقول: ﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾البقرة/81 .
وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾النساء/10.
وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾النساء/56.
مع آي كثيرة في هذا المعنى ردّاً على من كذّب وعيد الله, ويلزمه الكفر لتكذيبه آية من كتاب الله, وإنه ممن قال الله فيهم: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَ‌لِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ البقرة / 85.
بل نقول أن الله جلّ وعزّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالإستطاعة التي ملّكهم إياها, فأمرهم ونهاهم بذلك, ونطق كتابه: ﴿ مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ الأنعام/60.
وقال جلّ ذكره: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ آل عمران/30.
وقال: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾غافر/17.
فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به. ومثلها في القرآن كثير واختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب وبالله التوفيق.

♦ وأما التفويض الذي أبطله الصادق(ع) وأخطأ من دان به وتقلّده فهو قول القائل:
( إنّ الله جلّ ذكره فوّض إلى العباد وأهملهم ). وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقّته. وإلى هذا ذهبت الأئمة المهتدية من عترة الرسول (ص) فإنهم قالوا:
( لو فوّض إليهم على جهة الإهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الإهمال واقعا ً ) وتنصرف هذه المقالة على معنيين:

  • إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول إختيارهم بآرائهم ضرورةً كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن.
  • أو يكون جل وعز عجزه عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان.

ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدأ ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه وادّعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم فأمر عبده ونهاه ووعد على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه فأيّ أمر أمره أو أي نهيّ نهاه عنه لم يأته على إرادة المولى بل كان العبد يتبع إرادة نفسه واتباع هواه ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته , ففوّض إختيار أمره ونهيه إليه ورضيَ منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك وبعثه في بعض حوائجه وسمّ له الحاجة فخالف مولاه وقصد لإرادة نفسه واتبع هواه, فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمر به, فقال له: لما أتيتني بخلاف ما أمرتك؟
فقال العبد: اتكلت على تفويضك الأمر لي فاتبعت هواي وإرادتي, لأن التفويض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض.

أوليس يجب على هذا السبب أما أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته العبد ويملّكه من الطاقة بقدر ما يأمره وينهاه عنه, فإذا أمره بأمرٍ ونهاه عن نهيٍ عرّفه الثواب والعقاب عليهما. وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من الطاقة لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه, فيكون عدله وإنصافه شاملاً له وحجته واضحة عليه للإعذار والإنذار.
فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه أو يكون عاجزاً غير قادر ففوّض إليه أمره أحسنَ أم أساء, أطاع أم عصى, عاجزاً عن عقوبته وردّه إلى اتباع أمره.
وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأله وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب ومخالفة الكتاب إذ يقول جلّ من قائل: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾الزمر/7.
وقوله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾آل عمران/102.
وقوله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ الذاريات/56/57.
وقوله: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ النساء/36.
وقوله: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ الأنفال/20.

فمن زعم أنّ الله جلّ وعلا فوّض أمره إلى عباده فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول جميع ما عملوا من خير وشرّ وأبط ل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده, لعلَّةٍ ما, زعم أنّ الله فوّضها إليه لأن المفوَّض إليه يعمل بمشيئته,فإن شاء الكفر والإيمان كان غير مردود عليه ولا محظور, فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرناه من وعده ووعيده وأمره ونهيه وهو من أهل هذه الآية: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَ‌لِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ البقرة/85.
تعالى عما يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً.

ولكن نقول أن الله عزّ وجلّ خلق الخلق بقدرته وملّكهم إستطاعة تعبّدهم بها, فأمَرَهم ونهاهم بما أراد فَقَبِلَ منهم إتباع أمره ورضي بذلك لهم, ونهاهم عن معصيته وذمّ من عصاه وعاقبه عليها ولله الخيرة في الأمر والنهي, يختار ما يريد به وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالإستطاعة التي ملّكها عباده لاتباع أمره وإجتناب معاصيه, لأنه ظاهرُ العدل والنصفة والحكمة البالغة, بالغ الحجة بالأعذار والإنذار وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده إصطفى محمداً (ص) وبعثه برسالاته إلى خلقه, فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ الزخرف/31.
يعني بذلك أمية بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي, فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ الزخرف/32.
ولذلك اختار مــن الأمور ما أحب ونهى عمّا كره, فمن أطاعه أثابه, ومن عصاه عاقبه, ولو فوّض اختيار أمره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد (ص).

فلما أدّبَ الله المؤمنين بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ الأحزاب/36.
فلم يُجِز لهم الاختيار بأهوائهم ولم يقبل منهم إلا إتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه فمن أطاعه رَشَدَ ومن عصاه ضلّ وغوى ولزمته الحجة بما ملّكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه, فمن أجل ذلك حرمه ثوابه وأنزل به عقابه.

وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل, فقال أمير المؤمنين (ع): سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية, فقال أمير المؤمنين (ع): قل يا عباية.
قال: وما أقول؟ قال(ع): إن قلتَ تملكها مع الله قتلتك, وإن قلت تملكها دون الله قتلتك.
قال عباية فما أقول يا أمير المؤمنين؟
قال(ع): تقول إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك, فإن يملِّكها إياك كان ذلك من عطائه, وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه, وهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك, أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال عباية وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟
قال(ع): لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله, ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله.
قال: فوثب عباية فقبل يديه ورجليه.

وروي عن أمير المؤمنين (ع) حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله, قال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟
قال عليه السلام : بالتمييز الذي خوّلني وبالعقل الذي دلّني.
قال: أفمجبول أنت عليه؟
قال: لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسان ولا مذموماً على إساءة وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء فعلمت أنّ الله باقٍ وما دونه حَدَثٌ حائلٌ زائلٌ, وليس القديم الباقي كالحدث الزائل.
قال نجدة: أراك أصبحتَ حكيماً يا أمير المؤمنين.
قال:أصبحتُ مُخَيّراً, فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.

وروي عن أمير المؤمنين(ع ) أنه قال لرجلٍ سأله بعد إنصرافه من الشام, فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاءٍ وقدر؟
قال(ع): نعم يا شيخ, ما علوتم تلعةً ولا هبطتم وادياً إلا بقضاءٍ وقدرٍ من الله.
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟
فقال (ع): مه يا شيخ, فإن الله قد عظّم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون, وفي انصرافكم وأنتم منصرفون, ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين, لعلك ظننت أنه قضاء حَتم وقدر لازم, لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ولَسقط الوعد والوعيد ولَمـا ألزمت الأشياء أهلها على الحقائق, ذلك مقالة عَبدة الأوثان وأولياء الشيطان, إنّ الله جلّ وعزّ أمر تخييراً ونهى تحذيراً ولم يُطَع مُكرَهاً ولم يُعصَ مغلوباً ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظنُّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
فقام الشيخ فقبّل رأس أمير المؤمنين (ع) وأنشأ يقول:

أنت الإمــام الذي نرجو بطاعته   يوم النجاة من الرحمن غفرانا
أوضحت من ديننا ما كان مُلتبساً   جـزاكَ ربك عنّا فيه رضوانـا
فــليس معذرةٌ في فعــل فــاحشةٍ   قد كنــتُ راكبهـا ظُلماً وعصيانـا

فقد دلّ أمير المؤمنين (ع) على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ونعوذ بالله من الضلالة والكفر.
ولسنا ندين بجبرٍ ولا تفويض لكن نقول بمنزلةٍ بين المنزلتين وهو الامتحان والاختبار والاستطاعة التي ملّكنا الله وتقيّدنا بها على ما شهد به الكتاب ودان به الأئمة الأبرار من آل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين.

وبعد أن ضرب الإمام الهادي (ع) مثلاً على الإختبار بالإستطاعة راح يشرح الأمثال الخمسة التي ذكرها الإمام الصادق(ع) وهي:

صحّة الخلقة   وتخلية السرب   والمهلة في الوقت   والزاد   والسبب المهيّج.

فقال(ع):

وأما قول الصادق(ع)فإن معناه (صحة الخلقة) كمالُ الخلق للإنسان وكمال الحواس وثبات العقــل والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق وذلك قوله تعالى: ﴿ ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾ الإسراء/70.
فقد أخبر عزّ وجلّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطق, وذلك قوله: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾التين/4.
وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ . الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ ا لانفطار/6/7/8/.
وفي آيات كثيرة, فأوّل نعمة الله على الإنسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان, وذلك أنّ كل ذي حركةً على بسيط الأرض قائم بنفسه وبحواسه مُستكمل في ذاته, ففضلّ بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المُدرك بالحواس, فمن أجل النطق ملّك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمراً ناهياً وغيره مسخّر له ,كما قال تعالى: ﴿ كَذَ‌لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾ الحج/37.
وقال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾النحل/14.
وقال: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ النحل/5/6/7.
فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى إتباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة بعد أن ملّكهم إستطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ﴾التغابن/16.
وقوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ البقرة/286.
وقوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾الطلاق/7. وفي آيات كثيرة.
فإذا سُلِبَ العبد حاسة من حواسه رُ فعَ العمل عنه بحاسته كقوله: ﴿ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ﴾النور/61.
فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يستطيع القيام بها, وكذلك أوجب على ذي اليسار الحج والزكاة لِما ملّكه من استطاعة ذلك ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج, وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾آل عمران/97.
وقوله في الظهار: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ –إلى قوله- فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾المجادلة/3/4.
كل ذلك دليل على أنّ الله تبارك وتعالى لم يُكلّف عباده إلا ما ملَكهم إستطاعته بقوة العمل به ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحّة الخلقة. وأمّا قوله تخلية السرب, فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمر الله به وذلك قوله فيمن إستُضعف وحُظّر عليه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلاً كما قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ﴾النساء/98.
فأخبر أن المستضعف لم يُخـلَ سربه وليس عليه من القول شيء إذا كان مطمئن القلب بالإيمان.

♦ وأما المهلة في الوقت .
فهو العمر الذي يمتنع الإنسان من حدِّ ما تجبُ عليه المعرفة إلى أجلِ الوقت، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله فمن مات على طلب الحق ولم يُدرك كماله فهو على خيرٍ، وذلك قوله: ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾النساء/100.
وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلةٍ ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره. وقد حُظّر على البالغ ما لم يحظّر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله: ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾النور/31. فلم يجعل عليهن حرجاً في ابداء الزينة للطفل وكذلك لا تجري عليه الأحكام.

♦ وأما قوله: الزاد.
فمعناه الجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به. وذلك قوله: ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ التوبة/91.
ألا ترى أنه قُبل عذر من لم يجد ما ينفق وأُلزم الحجة كل من أمكنته البلغة والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك.
وكذلك قُبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقاً في مال الأغنياء بقوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ البقرة/273. فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الإعداء لما لا يستطيعون ولا يملكون.

♦ وأما قوله: في السبب المهيّج.
فهو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلبُ فمن فعل فعلاً وكان بدينٍ لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عمــلاً إلا بصدق النية ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله: ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ آل عمران/167.
ثم أنزل على نبيه ص توبيخاً للمؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾الصف/2.
فإذا قال الرجل قولاً واعتقد في قوله دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل. وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته. وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾النحل/106.
وقوله: ﴿ لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ﴾ البقرة/225.
فدل القرآن وأخبر الرسول (ص) أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها ولا يبطل ما يصحح القلب شيء.

فهذا شرح جميع الأمثال الخمسة التي ذكرها الصادق ع أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين وهما الجبر والتفويض، فإذا اجتمع في الإنسان كمال هذه الأمثال الخمسة وجب عليه العمل كملاً لما أمره الله عزّ وجلّ به ورسوله، وإذا نقص العبد منها خلّةً كان العمل عنه مطروحاً بحسب ذلك.

♦ وأما شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة.
ومن ذلك قوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ محمد/31.
وقال: ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف/182.
وقال: ﴿ الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾العنكبوت/1/2.
وقال في الفتن التي معناهـا الإختبار: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ .ص/34
وقال في قصة موسى ع: ﴿ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ طه/85.
وقول موسى: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ﴾ الأعراف/155. أي إختبارك.
فهذه الآيات يُقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.

♦ وأما آيات البلوى بمعنى الإختبار.
قوله: ﴿ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ المائدة/48.
وقوله: ﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ آل عمرن/152.
وقوله: ﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ﴾القلم/17.
وقوله: ﴿ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾الملك/2.
وقوله: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ البقرة/124.
وقوله: ﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾ محمد/4.
وكلما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار وأمثالها في القرآن كثيرة. فهي إثبات الإختبار والبلوى؛ إنّ الله جلّ وعزّ لم يخلق الخلق عبثاً ولا أهملهم سُدى ولا أظهر حكمته لعباً وبذلك أخبر في قوله: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾المؤمنون/115.

فإن قال قائلٌ: أفلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى اختبرهم؟
قلنا: بلى، وإنّما اختبرهم ليعلّمهم عدله ولا يعذّبهم إلا بحجةٍ بعد الفعل.
وقد أخبر بقوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا ﴾طه/134.
وقوله: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾الإسراء/15.
وقوله: ﴿ رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾النساء/156.
فالإختبار من الله بالإستطاعة التي ملّكها عبده وهو القول بين الجبر والتفويض، وبهذا نطق القــرآن وجرت الأخبار عن الأئمة من آل الرسول ص.

فإن قالوا: ما الحجة في قول الله: ﴿ كَذَ‌لِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾ المدثر/31. ما أشبهها؟
قيل: مجازُ هذه الآيات كلّها على معنيين: أمّا أحدهما فإخبارٌ عن قدرته أي أنه قادرٌ على هداية من يشاء وضلال من يشاء وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على نحو ما شرحنا في الكتاب.
والمعنى الآخر: أنّ الهداية منه تعريفه كقوله: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ -أي عرَّفناهم - فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ ﴾ فصل ت"17" فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا.
وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي أُمرنا بالأخذ بها، من ذلك قوله: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ آل عمران/7.
وقال: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾-أي أحكمه وأشرحه - ﴿ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ الزمر/17/18. (تحف العقول)

فهذه خلاصة ما قيل في نفي الجبر والتفويض الذي يتناقض مع الحكمة الإلهية والعدالة الرّبانية، وإثبات العدل الإلهي والمنزلة بين المنزلتين عن أئمة الهدى إذ لا يخفى أنّ الشيء من معدنه أهنأ وأمرأ وأنقى وأزكى، والماء من ينبوعه أصفى، والدواء من يد الطبيب أشفى. فأهل البيت هم الينبوع الصافي ومعدن القول الكافي الوافي وكلامهم هو الدواء الناجع الشافي وهم الذين لا يفارقون الكتاب ولا الكتاب يُفارقهم.

فيتلخص لنا مما تقدم من القول عن الأئمة المعصومين بأنّ الله سبحانه وتعالى عدلٌ لايجور، ولا يظلم عباده وهم أنفسهم يظلمون، ولا يكلفهم فوق طاقتهم، بل بما هو في وسعهم وضمن حدودهم وقدرتهم، ولا يجبرهم على معصيته ثم يعاقبهم على ذلك لأنَّ ذلك يتناقض مع حكمته وعدالته، ولا يفوِّض إليهم ما ليس لهم بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيرا، وأنّ من عدله وإحسانه أنّه يجازي على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشرة من أمثالها وهذا منتهى العدل والإحسان والعفو والغفران.

ومما يدخل في متن بحثنا ما قاله الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في جوابه للحسن بن أبي الحسن البصري حينما سأله عن القدر والإستطاعة:

فمن لم يؤمن بالقدر خيرُه وشرُّه أنّ الله يعلمه فقد كفر ومن أحال المعاصي على الله فقد فَجَرَ، إن الله لم يُطع مُكرها ولم يُعصَ مغلوباً ولم يُهمل العباد سُدىً من المملكة، بل هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه قدّرهم بل أمرهم تخييراً ونهاهم تحزيرا فإن إئتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّاً وإن انتهوا إلى المعصية فإن شاء أن يَمُنَّ عليهم بأن يحولَ بينهم وبينها فعلَ، وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً، ولا ألزموها كرهاً بل مَنّ عليهم بأن بصّرهم وعرّفهم وحذّرهم وأمرهم ونهاهم، لا جبلا على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه ولله الحجة البالغة.

ويُروى أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصلٍ بن عطاء وإلى عامرٍ الشعبي أنْ يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر.
فكتب إليه الحسن البصري:
إنّ أحسن ما انتهى إليَّ ما سمعت قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:
( أتظنُّ أنّ الذي نهاك دهاك وإنما دهاك أسفلك وأعلاك والله ربك بريء من ذلك ).
وكتب إليه عمرو بن عبيد : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
( لو كان الوزر في الأصل محتوماً كان الوازر في القصاص مظلوماً ).
وكتب إليه واصل بن عطاء: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
( أيدلك على الطريق ويأخذ عليك بالمضيق ).
وكتب إليه عامر الشعبي: أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
( كلما استغفرت الله فهو منك، وكل ما حمدت الله عليه فهو منه ).
فلمّا وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها، قال: لقد أخذوها من عينٍ صافيةٍ.

وهذا ما أردت بيانه بهذا الخصوص وفي هذا كفـاية وكنت قد نقلت أكثر أخبار وأحاديث الجبر والتفويض عن فصلٍ خاص جمعه ونسّقه العالم الجليل الشيخ أحمد إسماعيل 1 أمدّ الله بعمره. حيث أنه انتخب مجموعةً كافيةً عن آل البيت فيما يتعلّق بهذا الموضوع وذلك تسهيلاً لمن لا يطيق عناء البحث في المطولات ، أثابه الله عنّا ثواب الصالحين.

وربّما يحتج البعض علينا بقوله:
إنك لم تأت بجديدٍ في هذا الفصل وكلّ ما فعلته هو أنك جمعت أخباراً عن بعض المعصومين في هذا الموضوع، وهنا أقول:
وهل يستطيع أحدٌ أن يأتي بجديدٍ بهذا الخصوص وكلامهم )ع( هو الغاية في كل أصلٍ وفرعٍ، وهل الجديد إلا البدعُ نعوذ بالله منها.

وختاماً لهذا الفصل ومفتاحاً لغيره أقول بأنه من عدل الله في بريته وإحسانه عليهم أنه أرسل لهم الأنبياء والرسل ليوضحوا لهم معالم أصولهم ويرشدوهم لما فيه نجاتهم، كي تكمل سعادتهم في الدارين.
فما هي النبوّة ؟

إلى هنا ينتهي الجزء الأول من هذا الكتاب ويليه إنشاء الله الجزء الثاني.

  • 1 العالم الشيخ أحمد إسماعيل :
    شاعر ومؤرخ فقيه، ولد سماحته في قرية الرقمة المجاورة لبلدة مصياف سنة 1329هـ وكان والده من أبرز علماء عصره وأجلّهم مكانةً فنشأ على موائد العلم وشب على محاسن الفضيلة إلى أن تبوأ منزلةً رفيعةٍ بين علماء العلويين ولا يزال مُغرماً بتقصّ الحقائق وإنشاء الدراسات المُستفيضة حول كثير من الشخصيات التي عاش أصحابها في فترة اختفاء أقلام العلويين في كهوف جبالهم وانقطاعهم عن مواكبة المدن حرصاً على سلامة حياتهم وخوفاً من الوقوع في قبضة الجلادين والمفسدين في ذلك الوقت.