معرفة الغاية

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 11:33

أوضحنا في تمهيدنا الأول بأنّ الله جلّ وعلا خلق الخلائق لغايةٍ كريمة وحكمةٍ عظيمة، ولكي لا يبقى الإنسان هائماً يبحث عن هذه الغاية، أو ساهياً عنها أبانها الله تعالى له لطفاً به، ولتثبت عليه الحجة وتقوم المحجة، فقال وهو أصدق القائلين ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ الذاريات/56.
والمراد بالعبادة في هذه الآية الكريمة: المعرفة، لأن العبادة لا تمكن من دون معرفة فتقدمت المعرفة على العبادة كما تقدَّم الأصل على الفرع، والدليل على ذلك ما ورد في الحديث القدسي: ( كنتُ كنزاً مخفياً فأجبتُ أن أعرف فخلقتُ الخلقَ فبي عرفوني ).
ومما يزيد الأمر وضوحاً ويظهره صريحاً ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: ( أولُ الدين معرفته ) فصار أمراً جازماً أن تكون المعرفة به غاية الإيجاد ونهاية المقصود.

ولما كانت معرفته هي الغاية والسعي إليها بالنظر الصحيح عين الهداية كانت هذه المعرفة في غاية الدقة وبالغ الخطورة ولذلك فهي لا تصح إلا بذاته ولا تعرف إلا بآياته حذراً من تحريف المحرفين، وتشويه القاصرين، ولقول أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه السلام ( اعرفوا الله بالله) 1 أي بما وصفَ به نفسه في كتابه فيما يتناسب مع ألوهيته من التنزيه والتقديس لأن معرفته بالعقول الناقصة تؤدي إلى نسبة ما لا يليق بذاته إليه.

وقد قسّم أمير المؤمنين المعرفة بالله إلى خمسة مراحل كل واحدة تؤدي إلى أختها:

  • أولــهــــا : معرفتهُ.
  • وثــانيهـا : التصديق به.
  • وثــالثهـا : توحيده.
  • ورابعهــا : الإخلاص له.
  • وخامسها : نفي الصفات عنه.

فكل مرحلة من هذه المراحل كمالٌ للتي قبلها، وغاية لها، ومنطلق ومدخل للتي بعدها.

بيان لذلك:

أول الدين معرفته، فالمراد بالدين الطاعة، وقيل الشريعة التي بعث الله الأنبياء لتبليغها، وهي معرفته جل وعلا، فالمراد بالمعرفة هي معرفة أن لهذا العالم الحادث صانعاً صنعه، وقادراً أوجده، وهذا الصانع العظيم والخالق الكريم قديم بذاته قبل إيجاد الكائنات، قديم بصفاته بعد
إبداع الممكنات كان ولا شيء معهُ فيماثله ويضادده، وهو غني عن مخلوقاته، وهم مفترقون إليه، وأن هذه المعرفة الفطرية لها كمال وامتداد وهو التصديق القلبي العاري عن الشك المبرء من الريب، فهذا الإيمان يلزمه الإقرار الجاذب إلى توحيده بذاته وصفاته وأفعاله ونفي الكثرة عنه، والعلة والمعلول، والشبيه والنظير بإخلاص كلي خالٍ من الشوائب المانعة له، وذلك بنفي الصفات الزائدة عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فالبارئ لا يوصف بغيره لأنه كاملٌ بذاته، ولأن الكمال بالغير يوجب النقصان بالذات، والنقصان بالذات يوجب الحدوث والإمكان والحدوث والإمكان ينفيان الألوهية، وهذا ممتنع عن الحضرة الذاتية الكلية التي لها الكمال المطلق، والتي صفاتها أن تصفها بصفات الكمال المصرح عنها في الكتاب العزيز فمن وصفها بما لا يليق بها فقد قرنها بالغير، واقتران الغير معها يوجب القول بالثنوية النافي للتوحيد إذ أنه يؤول إلى التجزي الدّال على الجهل بالله المنزه عن التبعيض والتجسيد والحدوث والإمكان، والجهل بصفاته الكمالية التي هي عين ذاته.

فهذه هي مراحل المعرفة بالله عن إمام العارفين أوردناها باختصار لأولي الأبصار، وهذه هي الغاية من إيجاد الكائنات وهي المعرفة الصحيحة بالله، والتي غايتها وخلاصتها قول الإمام عليه السلام: ( التوحيد أن لا تتوهّمه ).

  • 1 سئل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفتَ ربك؟
    قال: بما عرّفني نفسه. قيل: وكيف عرفَّك نفسه؟
    قال: لا تشبههُ صورةٌ ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس، قريبُ في بعده، بعيدٌ في قربهِ، فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه إمام كل شيء ولا يقال له إمام، داخل في الأشياء لا كشيء داخلٍ في شيء وخارج من الأشياء لا كشيء خارجٍ من شيء، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ولكل شيء مبتدأ.