تمهيد

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 11:33

مما لا يخفى على كل ذي عقل راجح ولب ناصح، بأن الله سبحانه وتعالى خلق الكائنات الناطقة العاقلة لغايةٍ كريمةٍ، وحِكمةٍ عظيمةٍ، أبان عنها في كتابه، وأوضحها في خطابه، بقوله تعالى وهو أصدق القائلين: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ الذاريات/56.

فالعبادة 1 هي الغاية القصوى التي من أجلها خلقَ اللهُ الإنسانَ نمرقةً وسطى بين الوجوب والإمكان 2 ، وميزه بالعقل 3 على سائر أجناس الحيوان 4 وأرسل له الرسول ليرشده إلى معرفة الفرائض والأركان ، وأنزل عليه الكتاب فيه المحجة والبيان، والدليل والبرهان، كل هذا من أجل الإنسان، والإنسان خلق من أجل العبادة، والعبادة من أوثق عُرى الاتصال بالله جلّ وعلا، ومن أوكد أسباب النجاة في الآخرة، والخلاص من أدران ورواسب ومتعلقات هذه الدنيا الفانية ذات الأعراض الزائلة المتناهية ، وهي أكمل المسالك وأيسر المعارج إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.

والعبادة لله تعالى لا تنحصر في ركن إسلامي واحد كالصلاة كما يتصور البعض، بل تندرج في سائر أركان الإسلام المسماة بالعبادات على ألسن الفقهاء الثقاة، والعبادات هي كلُ ما فيه نية القربى إلى الله تعالى.

وكذلك العبادة فلا تنحصر أيضاً في هذه الأركان المعظمة، والواجبة على كل مسلم من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج إلى بيت اللــــه الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً بل فيها، وفي كل واجب إنساني وأخلاقي يقرب العبد إلى الله تعالى بصفاء النية وإخلاص الطوية، ولله در القائل:

أنا في اعتقــــادي كُل فعــل الواجبات من العبادة

(العلامة الشيخ سليمان الاحمد)

فالعبادة هي جوهر الطاعة والإخلاص لله تعالى الذي فرض هذه المفترضات بواسطة رسله، وهو الغني بذاته عن الواسطة وهم المفتقرون إليها فمن تقرب إليه بها إيماناً وإخلاصاً كان من عباد الله الطائعين المخلصين المؤمنين الذين لا خوفَ عليهم ولا هم يحزنون.

قال تعالى: ﴿ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ النساء/ 59.
فقد أمر بطاعته فيما افترض ، وبطاعة رسوله فيما بلغ عنه وأتى به منه، وبطاعة أولي الأمر الذين هم أهل العصمة ومعدنُ الحكمة فيما أوضحوا وشرحوا ما جاء عن الله في كتابه من التنزيل، وعن رسوله في خطابه من التأويل ، وأن الله سبحانه وتعالى أبان عن وجوب طاعة رسوله (ص) وحض عليها، وأمر بها لقوله تعالى : ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ الحشر/ 7.
ولولا وجوب طاعته لما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾ النساء/ 64، وأبان أيضاً عن وجوب طاعة أولي الأمر ، وأمر بسؤالهم ، والأخذ عنهم بقوله تعالى : ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ النحل/43 .

وأنّ لهذه العبادات الشرعية مقدمات اعتقادية لا بد منها ولا غنى عنها، وهي المعرفة التامة الصحيحة الإيمانية بالله ورسوله واليوم الآخر:

  • فمن لا يعرف الله فكيف يعبده ؟
  • ومن يجهل الرسولَ ولا يؤمن برسالته فكيف يطيعه ويتبعه ؟
  • ومن يشك باليوم الآخر فكيف تكملُ معرفته ويصح يقينه ؟
  • أم كيف تقام فريضة مجهولة ؟

وفي هذا المعنى يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام :
( أنهاك عن خصلتين ففيهما هلك من هلك ، أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم )

  • فمن أفتى الناس برأيه فقد خالف الله ورسوله بإنكاره النص الواضح والدليل الراجح الذي يغني عن القياس والرأي فيهلك بذلك نفسه والآخرين فعليه وزْره ووزرهم إلى يوم القيامة والدين.
  • ومن دان بما لا يعلم فلا دين له لاعتقاده ما لا يعلم فهو مقلدٌ جاهلٌ يخلط الحابل والنابل ، ولا يميز بين الصالح والطالح ، وهاتان الآفتان هما سبب كلَ بدعة في الإسلام، وانـحراف عنهُ، وجنوحٍ عن أصوله الواجب الالتزام بها.

وما يوضح ما قدمناه من تقديم المعرفة على العبادة قول أمير المؤمنين عليه السلام: ( أول الدين معرفته ).
فأكد بقوله هذا بأن معرفة الله هي المتقدمة على كل المعارف والعبادات والأساس لها ، فلا عبادة صحيحة إلا بمعرفة رجيحة.

فالمعرفة بالله أصلٌ راسخٌ ، والطاعة له فرعٌ شامخٌ لا انفكاك له عن أصلها الممتد منه والعائد إليه والمعروف به، وعلى هذا الأساس الواضح من دون إبهام فقد قسّم الإمام علي عليه السلام أحكام الدين إلى: (أصول إعتقادية إيمانية، وفروع فقهية تعبدية)، فكانت الأصول هي الاعتقادات والفروع هي العبادات والمعاملات المخبًر عنها والمأمور بها في الذكر الحكيم ، والواضحة معالمهــا بإرشاد النبي الكريم (ص).

ومعرفة الله سبحانه وتعالى من أجل العلوم وأسماها، وأقدسها وأسناها ترفع النفس الإنسانية إلى أوج الدرجات، وتطهرها من ربائث الجهل المعيق لها عن طلب الكمالات، فلخطورتها ودقتها، وجلال شأنها فهي لا تصح إلا بذاته، ولا تعرف إلا بآياته لقول أمير الكلام وإمام الإسلام عليه السلام: ( اعرفوا الله بالله )، أي بما وصف به نفسه في كتابه فيما يتناسب مع الوهيته من التنزيه والتقديس، لأن معرفته بالعقول الناقصة تؤدي إلى نسبة ما لا يليق بذاته إليه.

فـ معرفة الله سبحانه وتعالى هي الأصلُ الأولُ من أصول الدين عند سائر المسلمين الواجب معرفتها بالبرهان واليقين لا بالظن والتخمين، أما العدل فإنه من موضوعات الألوهية وهو من مباحث التوحيد وتوابعه وقد جمعه الرسولُ ص معه بقوله : ( ما عرف الله من شبهه بخلقه، ولا وصفه بالعدل من نسب إليه ذنوب عباده ).
وبنفس هذا المعنى الشريف يقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتهمه ).
وإنما أفرده العلماء ضمن فصلٍ مستقلٍ لما وقع فيه من خلافاتٍ بين الفرق الكلامية.

وبعد هذين الأصلين وهما أصلٌ واحدٌ في الحقيقة يأتي ثالث الأصول وهو معرفة الرسول صلى الله عليه وآله المبلغ عن ربه جل وعلا أصول العقيدة ، وفروعها العديدة ، وآدابها الفريدة ، وموضحها للأمة جمعاء ، فمن خلاله صلى الله عليه وآله وخلال الكتاب المنزل تعرف سائر المعارف التي فُرض على العباد معرفتها بيقينٍ ثابتٍ ، وإيمانٍ راسخٍ، والإقرار بها، والعمل من خلالها وعلى ضوئها، ويسمى هذا الأصلُ بالنبوة، وهو الأصل الثالث.
وكذلك الأمر فإن الإمامة لا تنفصم عن النبوة فهي مُتمّمة لها، ونيابة عنها، وجامعةٌ لشروطهـا إلا الوحي الذي يعتبر من أهم أركان النبوة، فقد أفرد العلماء بحثها في فصلٍ مستقلٍ واعتبر الأصل الرابع، وذلك لكثرة الخلافات التي جرت حولها بين المسلمين وما زالت حتى الآن.

ثم يأتي الأصل الخامس وهو في الحقيقة الأصل الثالث بإضافة العدل إلى التوحيد ، وإلحاق الإمامة بالنبوة وهو الإيمان باليوم الآخر والمعروف بــ المعاد .

فهذه هي الأصول الدينية في العقيدة الإسلامية العلوية وهي تقسم إلى قسمين: أصول الإسلام وأصول الإيمان.

  • فأصول الإسلام هي : التوحيد والنبوة والمعاد، فمن أقرّ بهم مع قيامه بوظائف العبادة فهو مُسلمٌ ومن اعتقدهم بقلبه من دون شكٍ فهو مؤمنٌ .
  • وأصول الإيمان هما : العدل والإمامة فمن أقر بهما مع أصول الإسلام وعمل بالأركان فهو مؤمنٌ ومن اعتقد بهم جميعاً فهو موقنٌ.

فالإسلام مدخلٌ إلى الإيمان، والإيمان مدخلٌ على اليقين، واليقين مُكمّلهما وجامعهما وغايتهما، فكل موقنٍ مؤمنٌ ولا يعكس، وكـلُ مؤمنٍ مسلمٌ ولا يعكس، فالإسلام أعم، والإيمان أخص، واليقين أتم.

  • 1 العبادة هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه، والعبودية هي الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود(التعريفات)، والعبادة أن تفعل ما يرضي الله عنك، والعبودية أن ترضى ما يفعل الله بك، وقيل أن المراد بالعبادة في الآية الأنفة الذكر هي المعرفة مأخوذ ذلك من الحديث القدسي( كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني).
  • 2 المراد بالوجوب والإمكان في هذا الموضع (العقل والشهوة) بحيث أن الله جل وعلا جعل في الإنسان من العقل ما يصلح لمعرفته وعبادته، ومن الشهوة ما يصلح لعمارة الدار، فهو جامـــعٌ للطرفين ، ومتوسطٌ ما بين نقيضين وكل جهةٍ من الجهتين المختلفتين تتجاذبه بوسائلها وجنودها إلى حيثها ، وهو بإرادته واستطاعته يتجه إلى الجهة التي يهوى طوعاً لا كرهاً ، فأما أن يكون إنساناً بالفعل بقوة عقله، وأما أن يكون حيواناً بالفعل بظلمة شهوته.
  • 3 العقل في اللغة هو الحجر والنهى ، وقد سمي بذلك تشبيهاً بعقل الناقة لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل كما يمنع العقال الناقة من الشرود، وفي التعريفات: هو جوهرٌ مجردٌ عن المادة في ذاته مقارنٌ لها في فعله وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل أحدٍ بقوله أنا، وقيل انه نورٌ في القلب يعرف الحق والباطل. وفي الكليات: هو نورٌ روحانيٌ به تدرك النفس العلوم الضرورية.
  • 4 الجنس في اللغة الضربُ من كل شيء ، وهو أعم من النوع يقال: الحيوان جنس والإنسان نوع مثال ذلك: إذا كان أحد الصنفين مندرجاً في الآخر كان الأول نوعاً ، والثاني جنساً ، وكان الثاني أعم من الأول.