دعوى إشراب التركيب معنًى صوفيًّا

أُضيف بتاريخ الأحد, 11/04/2021 - 15:33

دعوى إشراب التركيب معنًى صوفيًّا

وَقَالَ :

(( من الناحية الاجتماعية : كانت الحياة الاجتماعية ألصق بحياة المنتجب من الحياة السياسية ، لا بمعنى أنه انجرف بتيار المجتمع ..... وإنما بمعنى أنه استخدم كلَّ ذلك ورمزَ به إلى عناصر تفكيره الصوفي، أو مذهبه الشيعي ، أو دينه الإسلامي ، أو رأيه الفلسفي ..... فمثلاً استعار من مجتمع بغداد عادة قصد  (( الظبي الغرير )) وأشرب التركيب معنىً صوفياً وحوَّله إلى رمز لذات الله المقصودة . وأضفى على رمزه ظلالاً تمسك بالسرِّ الذي يحافظ عليه بحسن الوفاء لكي لا يظهر الضد على كنوزه ...

وظبيٍ غريرٍ رخيم الدلال        كغصن الأراك إذا ما انثنى
لفرطِ غرامي له في ا لهوى    جعلتُ فؤادي له مسكنا )) 1


بَيَانُ الوَهْم

إِنْ كَان الأَمْرُ عَلَى هَذَا، فَكُلُّ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ (( ظبي غرير )) كَانَ صُوْفِيًّا (( أشرب التركيب معنىً صوفياً وحوَّله إلى رمز لذات الله المقصودة )).

وَوَجْهُ فَسَادِ هَذِهِ الدّعْوَى : أَنَّ مَحَاسِنَ الشِّعْرِ ، فِي مَعْرِفَةِ التّشْبِيْهِ وَالاِسْتِعَارَةِ وَالمَجَازِ وَالكِنَايَةِ، فَمَنْ أَبْطَلَهَا أَبْطَلَ جَلِيْلاً مِنْ عُلُومِ العَرَبِيّةِ .

وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ المُؤَلّفُ فِي هَذِهِ الأَبْيَاتِ، لَمْ يَتْرُكْ للشّعْرِ أَثَرًا، وَلَمْ يَدَعْ للنّقْدِ بَقِيّةً .

فَمَا عَدّهُ المُؤَلّفُ إِشْرابًا للكَلِمَةِ مَعْنىً صُوْفِيًّا، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَبُو فِراس الحَمْدانِيّ صُوْفِيًّا فِي قَوْلِهِ :

وَظَبْيٍ غَرِيْرٍ فِي فُؤَادِي كِنَاسُهُ       إِذَا اكْتَنَسَ العِيْنُ الفَلاةَ وَحُوْرُهَا

تُقِرُّ لَهُ بِيْضُ الظِّبَاءِ وَأُدْمُهَا       وَيَحْكِيْهِ فِي بَعْضِ الأُمُوْرِ غَرِيْرُهَا

فَمِنْ خَلْقِهِ لَبَّاتُهَا وَنُحُوْرُهَا      وَمِنْ خُلْقِهِ عِصْيَانُهَا وَنُفُوْرُهَا 2


وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ المُنَخَّلُ اليَشْكُرِيُّ صُوفِيًّا فِي قَوْلِهِ :

وَلَقَدْ دَخَلْتُ عَلَى الفَتَا       ةِ الخِدْرَ فِي اليَومِ المَطِيْرِ

الكَاعِبِ الحَسْنَاء تَرْ      فُلُ فِي الدِّمَقْسِ وَفِي الحَرِيْرِ

فَدَفَعْتُهَا فَتَدَافَعَتْ       مَشْيَ القَطَاةِ إِلَى الغَدِيْرِ

وَعَطَفْتُهَا فَتَعَطَّفَتْ       كَتَعَطُّفِ الغُصْنِ النَّضِيْر

وَلَثِمْتُهَا فَتَنَفَّسَتْ       كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ الغَرِيْرِ 3
 

فَإِنْ كَانَ (( كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ الغَرِيْرِ )) فَهُوَ صُوْفِيٌّ (( أشرب التركيب معنىً صوفياً وحوَّله إلى رمز لذات الله المقصودة )).

وَإِنْ كَانَ ((كَتَنَفُّسِ الظَّبْيِ البَهِيْرِ )) عَلَى رِوَايَةٍ 4   فَلَيْسَ صُوْفِيّاً، وَهَذَا أَدَبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ الأزدي فِي غَرَائِبِ التّنْبِيْهَاتِ عَلَى عَجَائِبِ التّشْبِيْهَاتِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الجرجاني فِي دَلائل الإِعْجَازِ وَأَسْرَارِ البَلاغَةِ، وَكَيْفَ للخَطِيْب القزوِيْنيّ أَنْ يَتَكَلّمَ فِي الإِيْضَاحِ فِي عُلُومِ البَلاغَةِ !.

وَما الفَرْقُ بَيْنَ قَولِ أَبِي فِرَاس : وَظَبْيٍ غَرِيْرٍ فِي فُؤَادِي كِنَاسُهُ .

وَمَا نُسِب إِلَى المُنْتَجب :

وظبيٍ غريرٍ رخيم الدلال    جعلتُ فؤادي له مسكنا

فَإِذَا قَالَ المُؤَلّفُ :

(( استعار من مجتمع بغداد عادة قصد (( الظبي الغرير )) وأشرب التركيب معنىً صوفياً وحوَّله إلى رمز لذات الله المقصودة . وأضفى على رمزه ظلالاً تمسك بالسرِّ الذي يحافظ عليه بحسن الوفاء لكي لا يظهر الضد على كنوزه ، ولكنه ألقى عليه أضواء توحي به للعارفين، فجعل فؤاده مسكنا للظبي الغرير، وهو يعني استدامة ذكر الله عند العارفين، وجعل نفسه عبدا مملوكاً وأسيراً لهذا الظبي في حالتي النأي والدنوّ، والنأي والدنو رمزان للباطن والظاهر ..

وهو شديد الولع بظبيه الغرير ، يلومه على حبّه اللائمون فيبصّرهم بمعنى الحبِّ الوفي، ويعلنُ قراره الأكيد بأن محبته الباطنة والظاهرة وقفٌ على هذا الظبي الذي أخذه من مجتمعه ورفعه رمزاً لذات الله التي لا يشرك بمحبتها أحداً ؛ وأما نصيب الخلق منه، فمدحٌ لنوعية من الناس ، تطلب عُلى الله وتثني على آلائه...)) 5

قُلْنَا : لَقَدْ جَعَلَ أَبو فِرَاس كِنَاس الظّبي الغَرِيْر فِي فُؤَادِهِ (( وهو يعني استدامة ذكر الله عند العارفين، وجعل نفسه عبدا مملوكاً وأسيراً لهذا الظبي في حالتي النأي والدنوّ، والنأي والدنو رمزان للباطن والظاهر وهو شديد الولع بظبيه الغرير..)).

وَجَعَلَ المُنَخَّلُ اليَشْكُرِيُّ دُخُوْلَهُ عَلَى الفَتَاةِ الّتِي تَرْفُلُ فِي الحَرِيْرِ رَمْزاً ، فَتَدَافَعَتْ إِلَى الغَدِيْرِ، وَتَنَفّسَتْ كَتَنَفّسِ الظّبْي الغَرِيْرِ ، ثُمّ دَنَتْ فِي قَوْلِهِ :

فَدَنَتْ وَقَالَتْ يَا مُنَـ       ـخَّلُ مَا بِجِسْمِكَ مِنْ حَرُورِ
مَا شَفَّ جِسْمِي غَيْرُ حُـ       ـبِّكِ فَاهْدَئِي عَنِّي وَسِيْري
وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي       وَيُحِبُّ نَاقَتَهَا بَعِيْري 6


فَتَأَمّلْ، لَعَلّكَ تَعْرِفُ الرّمْزَ فِي مَحَبّةِ النّاقَةِ للبَعِيْرِ ، فَإِنّهُ مِنْ رُمُوْزِ التّصَوُّفِ .
 


 


  • 1فن المنتجب العاني وعرفانه 104 ـ 105.
  • 2ديوان أبي فراس الحمداني ، ص: 150 .
  • 3نقد الشعر ، ص: 38.
  • 4الأصمعيات، ص:60.
  • 5فن المنتجب العاني وعرفانه 104 ـ 105.
  • 6الأصمعيات، ص: 60.