النبّوة

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 03/11/2010 - 17:50

النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين باتفاق كافة المسلمين ، وقد رتبت ثالثاً عند الفرق الإثناعشرية لإفراد العدل في مبحث مستقل وصنف بالأصل الثاني.

وكلمة نبوّة : مصدر الفعل نبأ فأصل الكلمة نبوءة ثم خُففت بقلب الهمزة واواً، وإدغامها بالواو الأصلية، كما يقال : مروءة ومرّوَة.

ومعناها لغة : الإنباء والإخبار. ومنه أخذت النبوّة شرعاً إلا أنها قُيدت بالإنباء والإخبار عن الله تعالى.

وفي معجم ألفاظ القرآن : النبي هو من يصطفيه الله من عباده البشر لأن يوحي إليه بالدين والشريعة فيها هداية للناس قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ﴾ فصلت/6.

وفي مجمع البحرين النبي هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة بشر أعم من أن يكون له شريعة كمحمد (ص) أو ليس له شريعة كيحي (ع).

وفي التعريفات : النبي من أوحى إليه بملك أو ألـهم في قلبه أو نُبه بالرؤيا الصالحة فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة، لأن الرسول هو من أوحى إليه جبرائيل خاصة بتنزيل الكتاب من الله.

وبالنتيجة فالنبي شخصٌ من البشر ومن الناس أنفسهم إلا أنه يمتاز عنهم بعـدة خصائص وسنأتي على بيانها بعون الله فيجتبيه الله تعالى على سائر بني نوعه ويختصه بعنايته وهدايته فيوحي إليه أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل إليه رسولاً لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ الشورى/51.
فهذه هي الطرق الثلاث المُصَرَّح عنها في كتاب الله والتي يحصل بها اتصال النبي بالله ويتلقى عبرها المعارف الإلهية والتي فيها السعادة اللامتناهية ويأمره بهداية سائر الناس بها وإبلاغهم إياها لتتم الحجة عليهم وتنفتح أمامهم سُبل النجاح والفلاح لأنه من المعلوم وبالإجماع بأن الله جلّ جلاله وتقدّس كماله لم يخلق هذا الخلق العظيم عبثاً بل خلقهم لحكمة بالغة ومصلحة نافعة تعود عليهم وهي: العبادة له والانصياع لأمره وقد تقدم لنا إيضاح ذلك.
وتقرر أنه لم يتركهم سُدى فثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أن لا بد لهم حينئذٍ من نبي مرشدٍ لهم، يهديهم إلى سبيل الهُدى ويردعهم عن سبيل الغَي والرَّدى ليُبَيّن لهم الحـــق والصواب ويُظهر لهم ما هم صائرون إليه من الثواب والعقاب ، ومن كمال لطف الله بالإنسان أنّه قد زوّده بالفطـــرة لتهديه إلى طريق الخير والصلاح ليسلكه ويصل إلى هدفه وربما انحرف الإنسان عن الطريق القويم الذي تفرضه الفطرة فلا تتمكن بعد هذا من القيام بعملها المتمثل في هدايته، وهنا يأتي دور النبوة في حياة الإنسان لأن الله أجل وأعظم وألطف من أن يتركه يتابع سيره الخاطئ الذي يبعده عن كماله بل يرسل له الأنبياء والرسل ليقوموا اعوجاجه ويعيدوه إلى فطرته لقول أمير المؤمنين عليه السلام:

واصطفى سبحانه من ولده (أي من ولد آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه واجتالتهم الشياطينُ عن معـرفته واقتطعتهـم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءَه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعائش تحييهم، وآجالٍ تفنييهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتتابع عليهم.
ولم يخلِ الله سبحانه خلقه من نبي مُرسل ، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة، رُسُلٌ لا تقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم، من سابق سمي له من بعده، أو غابرٍ عرفه من قبله. (نهج البلاغة)

وعلى هذا الأساس الواضح كانت بعثة الرسل العظام من لدن آدم إلى ما بعد عيسى عليهم السلام إذ حمل كل واحد منهم إلى قومه رسالة ربه ودعاهم إلى التوحيد وعبادة الله، ونبذ ما هم عليه مــن ضلال وكفر ، فمنهم مـن آمن به، ومنهم من صدّ عنه فأخذ الله بعض هؤلاء الصادّين بعـذاب أليم، وبعضهم بريح عاصف، وبعضهم بطوفان مغرق إلى غير ذلك من أنواع التنكيل والتعذيب.
وكان كل رسول يُبعث برسالة تطابق روح عصره وتُلائم أهل زمانه، وكان الجميع يتحدّون في أصول العقائد وأمهات التوحيد، ويختلفون فيما وراء ذلك وكان كل رسول يُرسل إلى قومٍ معينين وجماعة مخصوصين لا يتخطاهم ولا يدعو سواهم.

(إلى أن بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وآله لإنجاز عدته وإتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه مشهورة سماته، كريماً ميلاده، وأهل الأرض يومئذٍ مللٌ متفرقة، وأهواء منتشرةٌ ، وطوائف متشتتةٌ بين مشبهٍ لله بخلقه، أو ملحدٍ في اسمه، أو مشيرٍ إلى غيره، فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة) نهج البلاغة.

(أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور ، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع،والأمر الصادع، إزاحــــة للشبهات واحتجاجاً بالبينات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثلات)

(فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعز الأرومات مغرساً، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه، وانتخب منها أمناءه، عترته خير العتر، واسرته خير الأسر، وشجرته خيرُ الشجر،نبتت في حرمٍ، وبسقت في كرم، لها فــروعٌ طوالٌ، وثمرٌ لا ينال، فهو إمام من أتقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوءُه، وشهاب سطع نوره، وزندٌ برق لمعه، سيرته القصد، وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل، على حين فترة من الرسل، وهفـــوة عن العمــل، وغباوة من العمل)

(فبالغ في النصيحة، ومضى على الطريق، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة) نهج البلاغة.

فقام في الدعوة سراً في بادئ الأمر، ثم أمره أن يُنذر عشيرته الأقربين، فأنذرهم وحذّرهم، ثم أمره أن يجهر بالدعوة وأن يُعلنها للناس جميعاً وأن يدعوهم إليها فصدع بالأمر وأرسلها مدويةً في الآفاق، وأعلن للناس مبدأه العام الخالد (أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله) فملأ به سمع الدنيا واهتزت له جنبات الأرض ورؤوس الجبال، وقد أرسل بكتبه الداعية إلى الله إلى هرقل وإلى كسرى وإلى المقوقس وإلى غيرهم من أساطين العالم يوم ذاك فزُلزلت عروشهم وهدت ممالكهم وقوضت تيجانهم.

ولما استتب الأمر له ص وقويت شوكت الدين، وهدأ الصحابة العاملون أخذ يبين لهم الأحكام ويبلغ ما أمر الله به ويوضح من التنزيل ما اشتكل أمره عليهم واُبهم لديهم، وأذن في الناس جميعاً بقوة وحَمِيَّة ( الناسُ سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ) فسَوّى بين الصغير والكبير والعظيم والحقير في حدود الدين فلم يترك غنياً لغناه، ولا وجيهاً لجاهه، ولا حابى عظيماً لعظمته، ولا أميراً لإمارته، فمحا فوارق الطبقات، وبث دعائم المساواة، والمآخاة بين الناس، وأعلن استقلال الفكر والحرية في الرأي بشرط ألا يخرج واحد منهما عن دائرته المشروعة.

فهذه هي الحكمة التي من أجلها بعث الله الأنبياء، وهذا هو الهدف من بعثتهم لهداية الناس إلى معرفة ربهم واعادتهم إلى فطرتهم الأولى التي فُطروا عليها فسبحان الفاعل لما يشاء وهو على كل شيء قدير.