الأشاعرة

أُضيف بتاريخ الخميس, 14/10/2010 - 14:48

إن محنة خلق القرآن مهّدت لحدوث انقلاب فكري كبير بين السنة تمثل أن اضمحل مذهب المعتزلة وأسس المذهب الأشعري.

لقد تعصب المأمون ومن أتى بعده من ملوك بني العباس للمعتزلة على غيرهم من الفرق تعصباً شديداً فكان كل من يقول بخلق القرآن له حظوتهم، وكل من لا يقول به يعزل عن عمله في القضاء وغيره، ويلقى ما يلقى من العذاب والسجن ، فطُورد الفقهاء وسجنوا وعُذبوا ونُكل بهم.
فمنهم من أقر، ومنهم من تمسك برأيه، وعلى رأسهم إمام المذهب الحنبلي أحمد بن حنبل، وابتلي عامة الناس بذلك فأُريقت دماء كثيرة.
ولما مات الواثق سنة إثنين وثلاثين ومئتين، وتولى المتوكل السلطة انقلبت الدائرة على المعتزلة، وابتدأ التضييق على متكلميهم، إذ كتب إلى الآفاق بمخالفة القائلين بالاعتزال ومن حينها بدأت شمسهم بالغروب.

وفي أواخر القرن الثالث الهجري انشق عن الشيخ أبي علي الجبائي المتوفى سنة ثلاثٍ بعد الثلاثمئة من الهجرة، وهو من أساطين المعتزلة تلميذه أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري (260-324هـ) وأعلن براءته من الاعتزال في مسجد الكوفة .
وذلك بعد أن أخذ عنه وعن بعض العلماء من أهل الاعتزال أربعين سنة فرقى كرسياً يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أُعرفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قد قلت بخلق القرآن وإن الله لا يرى بالأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة.
ثم أنشأ مذهباً اعتقادياً جديداً جمع فيه بين الطريقة العقلية في التفكر الاعتزالي ، وما ورد في ظواهر الأحاديث التي يرويها أهل الحديث والحشوية فعدّل معتقداتهم ودعمها بالبراهين النظرية مما جعل مذهبه يلاقي رواجاً لدى عامة الناس والسلطات الحاكمة حتى غدا المذهب الرسمي للدولة.

والنتيجة إن الأشعري عمل في نهج إصلاح عقيدة أهل الحديث، ولذلك عُدت الأشعرية أقرب إلى كونها عقيدة حنبلية معدلة، عمدت إلى تصحيح بعض المفاهيم مثل حقيقة القول بقدم القرآن والاعتقاد بالجبر والقدر، واثبات الصفات عن الله تعالى.

حاول الأشعري استخدام المنهج العقلي في علم الكلام ، أي أسلوب المعتزلة نفسه في دحض أفكارهم ، وانصرفت مناظراته إلى الرد عليهم وتفنيد معتقداتهم وخصوصاً فيما يتعلق بخلق القرآن ، فتوالت كتاباته في إثبات إن كلام الله غير مخلوق وهو قديم مما اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمهم الحنابلة.

وجاء بتفسير جديد لإصلاح القول بذلك بمعنى إن كلام الله ليس هو القرآن المقروء بل الكلام النفساني.

واختلف مع المعتزلة أيضاً في دور العقل في الشرع حول مسألة الحسن والقبح العقليين فقال : أن الحسن ما حسنه الشارع ، والقبح ما قبحه الشارع وليس للعقل أي دور في هذا المجال ، واختلف معهم في مفاهيم الوعد والوعيد والأسماء والأحكام والسمع وغيرها من المسائل العديدة.
إلا أن مسألة التحسين والتقبيح عدّت من المسائل الأساسية في العقيدة الأشعرية ، وقد عنونها الأشعري باسم (التعديل والتجوير) وعدّ استخدام العقل وتحكيمه في التحسين والتقبيح يقتضي نفي المشيئة الربانية، وتقيدها بقيد وشرط، إذ يجب على القول بها أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل، كما عليه الاجتناب عما هو القبيح عنده.

إن الإيمان في العقيدة الأشعرية هو التصديق بالجنان، وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه، وصاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا بغير توبة يكون حكمه إلى الله.

حاول الأشعري إظهار بعض الإعتدال المذهبي مستخدماً الجدل الكلامي للتوفيق بين العقلانية والسنة بالتمسك بالنص القرآني والسنة النبوية وما يروى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، وعدّ المعرفة التي ينشئها العقل غير كافية في أيجاد الاعتقاد والتكليف، فهي إرشادية ثانوية مرجعها الوحيد وحي إلهي، وإن الاختيار ليس حقيقياً أو نهائياً، لأن الله وحده يخلق في الإنسان العقل والاستطاعة.

أما في مسألة الجبر فقد عدّ أفعال الإنسان مقررة من الخالق الذي أراد الجميع خيرها وشرها ونفعها وضرها ، وكما أراد من العباد ما علم، وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل، وخلاف المعلوم مقدور الجنس محال الوقوع.
وقد أدخل في هذه المسألة مفهوم الكسب ليكون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله بالكسب، وحصيلته إن صدور الفعل من الإنسان يكون في ظل قوة محدثة من الله في العبد عن طريق الكسب.

وجعل الأشعري الصفات الثبوتية مثل العلم والقدرة والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر صفات قديمة قائمة بذاتها.
وفي هذا كان استدلاله على وجود الباري سبحانه وتعالى، وعلى وحدة الصانع، وفي كونه لا يشبه المخلوقات ، وإن اعادة الخلق المعدوم جائز، والله سبحانه وتعالى ليس بجسم، وصفاته قديمة لا حادثة، زائدة على ذاته، وجوز تكليف ما لا يطاق لأن التكليف عرض ، وأباح تعذيب المحسن وثواب المسيء، واعتبر الإيمان والطاعة بتوفيق من الله...الخ

ويوجز الأشعري منهجه بقوله: الله قادر على كل شيء وخالق كل شيء، وليس للطبيعة عنه فعل ما، أما أفعال الإنسان فان الله يفعلها ويخلقها فيه، فينسبها الإنسان إلى نفسه ويزعم أنها من كسبه، والعقل أداة للإدراك فقط، لكنه لا يستطيع إدراك وجود الله.

لقد رفض الأشعري أن يكون منهجه مذهباً جديداً يضاف إلى المذاهب الفقهية الأربعة معتبراً عدم خروج أفكاره عنها، وإن تلك المذاهب على حق وان اختلفت في الفروع دون الأصول، فكل مجتهد مصيب وكلهم على حق وانهم لا يختلفون في الأصول وانما اختلافهم في الفروع كما روى ابن عساكر .

فنرى الأشعري في مقولاته مع الشافعي، ومع مالك، ومع ابن حنبل، بالرغم من تنكر الشافعية له، وبالرغم من إخفاقه في استمالة الحنابلة بالجهر أنه ينطق بلسانهم، فقد تعصبوا عليه ونالوا من ماضيه في الاعتزال.

أما مع الشيعة الإمامية فقد تبنى الأشعري مسائلاً فقهية تجمعه معهم مثل مسألة الشفاعة إذ يشفع الرسول لأهل الكبائر ويكشف العذاب عنهم، وان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان سمعاً بالنص، وقبول التوبة بفضل من الله ولا يجب عقلاً إسقاطها العقاب، ووافقهم أيضاً بالقول أنه لا بد في أول التكليف وابتدائه من وجود رسول ..

وعلى غرار الأشعري رفض تلامذته الإقرار بأن لأستاذهم مدرسة فقهية خاصة أو مذهباً مستقلاً، ووصفوا أنفسهم موحدين وجاهروا بأن الأشعري لم يأتِ بشيء جديد وإنما جمع ما جاء به من كان قبله ممن لا يشك في عقيدته وسهله على طلابه.

من أشهر كتب الأشعري الإبانة عن أصول الديانة وهو الكتاب الذي اعترض عليه الحنابلة وهجروه.
وكتاب مقالات الإسلاميين وبحث فيه الفرق الإسلامية.
وكتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، وعرض فيه مجمل آرائه ونظرياته الكلامية.

انتشرت الأشعرية في العراق وخراسان والشام والمغرب على يد عدد من أصحاب الأشعري وذلك بتأييد الحكام، وكان أبو بكر الباقلاني من أشهر الفقهاء الذين تمسكوا بالأشعرية وأضافوا إليها مسائل جديدة تتصل بها أكثر مما تتصل بمناهج السنة، فقام بتهذيب بعض المسائل الأشعرية، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، ومن مؤلفاته ( التمهيد في الرد على المعطلة والرافضة ) وكذلك من أبرز مفكري المنهج الأشعري أبو منصور عبد القاهر البغدادي، وإمام الحرمين الجويني، والغزالي، والشهرستاني، والرازي، وسيف الدين الأمدي، وعبد الرحمن الآيجي، والتفتازي، وعلاء الدين السمرقندي القوشجي.