نفي المطاعن

أُضيف بتاريخ الأحد, 31/10/2010 - 11:27

ليس المهم أن يكتب الكاتب فحسب، بل المهم أن يعرف ماذا يكتب، وإلا فلا حاجة إلى كتابته، والأهم من كل ذلك فإنه إذا كتب فعليه أن يوثّق معلوماته التي يقدمها بالأدلة القاطعة والحجج الساطعة المقنعة للقارئين والمقبولة عندهم.
أما أن يُدلي بمعلومات يتيمة من خياله الواسع ليقنع الآخرين بها، فهذا أمر بعيد عن صفات الكاتب المنصف الذي يحترم نفسه وحرفته.
بالإضافة إلى ذلك فانه يساهم في تحريف الحقائق مع من حرّفوها، وخصوصاً في ترجمة الأعيان التي تتطلب الدقة التامة والموضعية الشاملة، والحقيقة المجردة عن الأهواء والغايات.

لقد كتب الكثير من المؤرخين ترجمات عن الشيخ الخصيبي لا علاقة له بها لا من قريب ولا من بعيد ( إلا نادراً )، بل أطلقوا الكلام على عواهنه من دون أن يقدموا لنا دليلاً واحداً على صحة أقوالهم، فخلطوا الحابل بالنابل، ولم يُميّزوا بين الصالح والطالح، والأغرب من كل ذلك اعتبارهم له بأنه شخصية شبه غامضة لم يعرف عنها الا الشيء القليل ويندر وجود ترجمة كاملة له تتحدث عن حياته من بدايتها إلى نهايتها ولم يعلموا ( أو لعلهم تجاهلوا ) بأن هناك المئات من الأعلام الكبار لم يُعرف عنهم سوى القليل الذي لا يروي غلة ولا يشفي عِلّة، ولهذا أقول:

إنه من الطبيعي أن يعتبر الشيخ الخصيبي (ق) شخصية شبه غامضة ما دام القوم لا يعرفون حتى التلفظ باسمه فتارة يقولون الحضيني، وطــوراً الخصيــبي، وكذلك الأمر في تاريخ وفاته فقد تناقضوا فيما بينهم بعدة تواريخ:

  • منهم من قال أنه توفي سنة 358هـ.
  • ومنهم أصرّ على أن وفاته كانت سنة 334هـ.
  • ومنهم من أصاب الهدف من حيث لا يدري وقال سنة 346هـ.

وهناك أمور أخرى تناقضوا فيها يطول سردها وتفصيلها فعدم ذكرها أفضل والدخول في صميم الحديث أجدى وأكمل.

إنّ من أكثر المتحاملين على الشيخ الخصيبي (ق) هما النجاشي وابن الغضائري، ولما راجعت ما كتباه عنه لم أجد لهما نصاً يؤكد مزاعمهما فلذلك رأيت من الأفضل البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء طعنهما لتنجلي لنا الأمور على جليتها وعلى هذا الأساس ومن هذا المنطلق أقول وما توفيقي الا بالله العلي العظيم:

إنّ الطعون الموجّهة إلى الشيخ من قبل النجاشي وابن الغضائري وغيرهما فنّدها ودحضها السيد محسن الأمين العاملي بكليتها في كتابه القيّم وموسوعته الشاملة (أعيان الشيعة)، و ورَدَّ على المتحاملين عليه رَداً جميلاً بقوله:

لو صح ما زعموا وما ذهبوا إليه ونسبوه له لما كان الأمير سيف الدولة الحمداني المعروف والمشهور بصحة عقيدته الإسلامية، وولائه للعترة الطاهرة آل البيت سلام الله عليهم، صلّى عليه وائتم به.


وقال أيضاً :

والقدماء كانوا يقدحون بفساد العقيدة والتخليط بأشياء كانوا يرونها غلوّاً وهي ليست كذلك.

ومن يراجع كتاب (أعيان الشيعة) يُلاحظ أنّ مؤلّفه كان واضـح الميـل إلى توثيقه لاثبات رواية التلعكبري 1 عنه واستجازته ولعدم قدح الشيخ به، وثناء صاحب الرياض عليه بقوله: ( فاضل عالم محدث )، وكذلك استدلالاً برواية أبو العباس بن عقدة، وثناؤه عليه.

وقد أكّد السيد الأمين أيضاً بأن ( الغضائري لم يسلم منه أحد لذلك لم يعتنِ العلماء بذمومه ).

وأوضح هذه الناحية العلامة الشيخ جعفر السبحاني وذلك في معرض حديثه عن ابن الغضائري حيث يقول:

إنّ تضعيفه للرواة والمشائخ لم يكن مستنداً إلى الشهادة والسماع بل كان اجتهاداً منه عند النظر إلى روايات الأفراد، فإن رآها مشتملة على الغلو والإرتفاع حسب نظره، وصفه بالضعف ووضع الحديث. 2
واستشهد عن المجلسي بقوله :
ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمة عليهم السلام، وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم، وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة بعض غرائب المعجزات حتى قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم، أو القول بأنهم يعلمون ما كان وما يكون 3 .

ثم عقب قائلاً ( والحديث للشيخ السبحاني ) :

(وعلى ذلك فليس من البعيد أن الغضائري ونظراءه الذين ينسبون كثيراً من الرواة إلى الضعف والجعل، كانـوا يعتقدون في حق النبي والأئمة عليهم السلام عقيدة هذه المشائخ فـإذا وجـدوا أنّ الرواية لا توافق معتقدهم اتهموه بالكذب ووضع الحديث.
والآفة كل الآفة هو أن يكون ملاك تصحيح الرواية عقيدة الشخص وسليقته الخاصة فإن ذلك يوجب طرح كثير من الروايات الصحيحة واتهام كثـير مـن المشائخ.
والظاهر أن الغضائري كان له مذاق خاص في تصحيح الروايات وتوثيق الرواة، فقد جعل اتقان الروايات في المضمون حسب مذاقه دليلاً على وثاقة الراوي، ولأجل ذلك صحح روايات عدة من القميين، ممن ضعّفهم غيره، لأجل أنه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة.
كما أنه جعل ضعف الرواية في المضمون، ومخالفته مع معتقده فيما يرجع إلى الأئمة، دليلاً على ضعف الرواية، وكون الراوي جاعلاً للحديث، أو راوياً عمن يضع الحديث، والتوثيق والجرح المبنيان على اتقان المتن، وموافقته مع العقيدة من أخطر الطرق إلى تشخيص صفات الراوي من الوثاقة والضعف.

ثم ختم قائلاً :
( ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على تضعيفاته )، واستشهد بقول المحقق (( الداماد )) من أنه -أي الغضائري- ( قلّ أن يسلم أحدٌ من جرحه أو ينجو ثقة من قدحه ) 4 .

ومن أراد الاستزادة فليراجع كتابه القيم (كليات في علم الرجال ) ففيه المزيد للمستزيد.

  • نستنتج مما تقدم بأن الشيخ الخصيبي (ق) لم يكن ذنبه الا أنه روى أخبـاراً صحيحة عن الأمناء في فضائل أئمته عليهم السلام، فطعن به وبعقيدتـه من لم يعتقدها، وأثنى عليه من أخذ بها وحققها، فانقسم فيه الرجال ما بين مادح وقادح، ومُحب ومُبغض، فاستدللنا على الضعيف بقدحه، وعلى القوي بمدحه، فكان الشيخ ميزاناً للرجال يعرفون من خلاله .

وقال العلامة ميرزا محمد تقي في كتابه (صحيفة الأبرار) بعد كلام تقـدم له:

هذه الأخبار قليلة من كثير ما ورد في هذا الشأن أخرجناها في هذا المقام ليعلم الناظر المنصف حقيقة ما ذكرناه من وجوه نشوء القدح في كثير من أعاظم الأصحاب والتابعين لهم بإحسان، ومما يوضح بعض تلك الوجوه أن كثيراً من المسائل التي صارت سبب القدح في حق بعضهم قد صار بعد ذلك بين الشيعة من الأمور الضرورية فمن ذلك :

ما رواه الكشي رحمه الله في ترجمة يونس فانه روى حديثاً عن الحسن الرضا ع يدل على أن أهل البصرة كانوا ينكرون على يونس بن عبد الرحمن قوله أن من السنة أن يصلي الانسان ركعتين وهو جالس بعد العتمة، وأنت تعلم أن هذه الصلاة من النوافل الراتبة فاذا كان الناس يجعلون مثل هذا سبباً للقدح في مثل يونس فما ظنك بسائر الأمور الخفية.

ومنها ما رواه أيضاً في ترجمة زرارة بسنده عن حمزة بن حمران قال: لقيت أبا عبدالله ع فقلت له بلغني أنك لعنت عمي زرارة ، قال: فرفع يده حتى صك بها صدره ثم قال لا والله ما قلت ولكنهم يأتون عنه بأشياء فأقول من قال هذا فأنا منه بريء.
قال قلت: فأحكي لك ما يقول. قال: نعم. قال: قلت.
يقول: إن الله عز وجل لا يكلف العباد إلا ما يطيقون وانهم لم يعملوا إلا أن يشاء الله ويريد ويقضي. قال: هو والله الحق، ودخل علينا صاحب الزطي فقال له: يـا ميسـر لست على هذا ؟ قال: على أي شيء أصلحك الله، أو جعلت فداك، قال: فأعاد هذا القول عليه كما قلت له ثم قال هذا والله ديني ودين آبائي. انتهى.

فإن هذه المسألة ( الكلام للميرزا ) التي قد صارت بين الشيعة من المسلمات أحد أسباب القدح من ضعفاء الشيعة في يونس بن عبد الرحمن، وزرارة بن أعين، وبريد بن معاوية، ومن تابعهم كما يظهر في الآثار المنقولة حتى أن مذهبهم هذا عرض على الأئمة في بعض الأخبار فتبرؤاً منه تقية من الشيعة الضعفاء فضلاً عن المخالفين.

ومنها مسألة الرجعة فان جماعة من الشيعة كانوا يعدونها من التناسخ المجمع على بطلانه وكانوا يرمون من يقول بها بالكفر وينسبونه إلى القول بالتناسخ، ولذا كانت الأئمة عليهم السلام لا يُظهرون تلك المسألة الا لخواص أصحابهم، ويظهر ذلك لمن تتبع الآثار وتردّد في مجامع الأخبار مع أنها الآن من ضروريات مذهب الشيعة ومنكرها خارج عن حوزة الايمان.

ومنها مسألة نفي السهو عن النبي والأئمة عليهم السلام فإن محمد بن الحسن بن الوليد جوّز ذلك وتمسك فيه بخبر ذي اليدين المعــروف، وتبعه شيخنا أبو جعفر محمد بن بابويه رحمه الله في ذلك 5 فقال: في الفقيه بعد إيـراد الخبر في سهو النبي في الصلاة ما هذا لفظه:
(قال مصنف هذا الكتاب أن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله إلى أن قال وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد يقول أقل درجة الغلو نفي السهوعن النبي صلى الله عليه وآله فلو جاز أن ترد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار وفي ردها إبطال الدين والشريعة وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في اثبات سهو النبي والرد على منكريه إن شاء الله تعإلى.) انتهى.

فتدبر أيها الناظر ( الكلام للميرزا ) إذا كان مثل ابن الوليد وتلميذه قد جعلا من علامة الغلو والتفويض " إنكار سهو النبي " الذي أجمع جميع من جاء بعدهما من أساطين الشريعة على تنزيهه صلى الله عليه وآله وسلم عنه فلا ريب أنهما كلما وجدا رجلاً يُنكر ذلك حَكَما عليه بالغلو والإرتفاع فبعد هذا كيف يبقى الوثوق على جرحهما للرجال لمقتضى اجتهادهما في عقائدهم...

وقال :

وقد رمى علماء الرجال جماعة بالكفر والغلو والارتفاع والتخليط مع أنّ الأئمة عليهم السلام كانوا يدنونهم ويلطفون بهم وينزلونهم منازل المقربين كالمفضل بن عمر ويونس بن عبد الرحمن وهشام بن الحكم ومحمد بن سنان وسهيل بن زياد الآدمي، ونظرائهم... وإنّ ما ورد عن الأئمة عليهم السلام في حقهم من الذموم إنّما لمصلحة ما وليس على سبيل الحقيقة.

وقال بعد حديث تقدم :

ولم تنزل آية أو وحي من الله تعإلى بأن الحجة في هذا الباب مقصورة على كتابي الشيخ وكتاب الكشي، والنجاشي، وابن الغضائري مثلاً لا غير، وإن من استعلم حال الرجال من سائر الكتب الغير موضوعة لهذا الشأن واستخرج منها قرائن قطعية على حسن حال الرجال… أو سوئه فقد خرج عن ربقة الدين وترك سنة سيد المرسلين(ص) كما يشهد بذلك حال الكثير من المُصنّفين فإن من تتبّع مسطوراتهم وجدهم قد سدّوا باب التحقيق بالكليّة وحصروا طريق العلم بأحوال الرجال فيما ضبط هؤلاء السابقون في كتبهم مع أنهم كان عذرهم في ذلك لقاء هؤلاء للمعدلين والمجروحين دون من تأخر عنهم فهو كذب بحت فإنهم لم يلاقوا الا من عاصرهم وعرفوا حاله، وإنما استعلموا حال كثير منهم باجتهادهم في رواياتهم وفي الأخبار الواردة في شأنهم والأقوال المقولة في حقهم ومثل هذا الاجتهاد مشترك بين المتقدم والمتأخر فما بال المتأخرين لا يقبل اجتهادهم في ذلك ويقبل اجتهاد المتقدمين سيما مثل اجتهاد شيخنا الصدوق حيث قال في عقائده: ( إن علامة المفوضة والغلاة نسبتهم مشائخ قم وعلماءهم إلى القول بالتقصير ) (انتهى). 6
وقد عرفت فيما قبل أن القميين كانوا يتهمون الرجل بأدنى شبهة وأن كثيراً منهم كانوا من ضعفاء الشيعة ولذا سقطت تصنيفاتهم عن أنظار المتأخرين... وبالجملة من تدبر في كلمات القوم وجد أكثر ما تمحِّلوه في هذا الباب خارجاً عن طريق السداد والصواب.

( ثم أتى على ذكر من بالغ في هذا الشأن ) كالفضل بن شاذان النيشابوري الذي قال عنه:

إنّه مع تشيعه ووثاقته في الحديث كان ضعيف البصيرة يتهم كثيراً من الأصحاب بفساد العقيدة.

وأحمد بن محمد بن عيسى القمي فإنّه مع جلالته كان قليل المعرفة مُبرِماً في الطعن على أصحاب العلم والمعرفة وقد أخرج من قم جماعة بتهمة الغلو وغيره، كسهيل بن زياد الأدمي 7 وأحمد بن محمد بن خالد البرقي صاحب المحاسن وأمثالهما.

ومحمد بن الحسن بن وليد شيخ الصدوق فإنه أيضاً بالغ في التسارع إلى الإنكار بمقتضى اجتهاداته الغير مقبولة، وناهيك في معرفة ضعف بصيرته ونزارة معرفته ما سمعت فيما مر من قوله الغير سديد.

وأحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضائري صاحب كتاب (الرجال ) المقصور على ذكر الضعفاء فإنّه مِمَّن أفرَط في هذا الشأن في المقال، وتجاوز حَدّ الإعتدال حتى أنّ من تأمّل في مُبالغة ذلك يُوهمه أنّه ما كان هَمّه إلا تكبير حجم كتابه، وبالجملة فإنه لم يُقصّر في التجاسر على حَفظة آثار أهل العِصمة وسدنة شرائع نبي الرحمة بل بَذل فيه ما يبلغ إليه جهده. ولذا جُل من أتى بعده من المحققين أخذ في الرد عليه 8 .

والذي ظهر لي ( والكلام للميرزا ) من حال هذا الرجل:
(أنّه ممن لم يكن له حظ في مواريث العلم ولا استعداد لتحقيق موارد الشبهات وإنّما أخذ شيئاً من الأفواه ولم يُتقنه على الكمال فنبذ عقله وراء ظهره وقدّم هواه أمامه ووقع بين العلماء وسَلك نفسه في سلكهم فجعل كل من يَمُرّ عليه يرميه بلسانه ولا يُبالي أأخطأ أم أصاب).

ولقد وقفت على كلام لبعض الناس في الاعتذار عن مبالغة هذا الرجل في القدح ( أي مبالغة الغضائري ) يعجبني ذكره وهو أنه قال:
(أنّ هذا الصنع منه لو لم يكن موجباً للمدح لم يكن مورثاً للقدح لأنه يكشف عن كمال تثبت الرجل وشدّة احتياطه في الدين وغاية تتبعه لموارد اليقين) 9 .
وأنا أقول : أيها الرجل حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياء فإنّ الاحتياط له مورد مخصوص وليس هذا منه فإنّ القدح في البريء بالكفر والزندقة والغلو والالحاد بمجرد الظن بل الوهم من أعظم الكبائر عند الله، وكيف ولم يرض الله تعإلى بقذف من ظاهره الايمان ببعض المعاصي كالزنا وشبّهه إلا بما رأته عينك على نحو العيان الذي لا يعتريه شبهة فكيف بقذفِهِ بأسباب الكفر؟
وأيضاً كيف يجوز الاحتياط في قدح الرواة وهو يؤدّي إلى تضعيف جملة وافية من أخبار الأصول والفروع وتعطيل كثير من الأحكام الدينية فالبيّن أنّ هذا الا إختلاق.
فهذا المُعتذر لو اعتذر عن اعتذاره هذا كان أولى له وأحسن لأنه قال قولاً أوّل من خالفه فيه هو الله عز وجل في قوله لنبيّه: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ . الآية.
وفي قوله تعإلى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ . الآية.

هذا ولعلك تلومني في إساءة الأدب على مثل ابن الغضائري وتقول أنه طعن في أهل العلم، فأقول:
يا أخي إن كان الطعن في أرباب العلم قبيحاً فهذا الرجل قد طعن في ألف رجل كلهم من أساطين الشريعة وحملة آثار الوحي والتنزيل فالرجل هو الذي فتح هذا الباب على نفسه ولا ذنب لأحد في ذلك أبداً، فإن من حفر لأخيه بئراً وقع فيها 10 .

وهنا أقول: إنّ من يتمعن بتأنّ فيما قدّمناه من الشواهد الواضحة والصريحة، والدلائل اللائحة المريحة، يدرك الأسباب الحقيقية وراء اتهام الشيخ بالغلو وفساد المذهب ويستدلّ أيضاً على ضعف وتقصير من رموه بذلك البهتان وحينها ينشد معنا قول المتنبي:

وكم من عائب قولاً صحيحـاً   وآفتــه مـن الفـهـم السقـيـــم
ولـــكـن تــــأخذ الآذان منــه   على قـدر القـرائـح والعـلـوم

فعِلّة الاتهام بالغلو تعود إلى نفي السهو عن النبي والأئمة المعصومين، والتصديق بمعاجزهم والأخبار عنها، ورواية فضائلهم.
وعلّة الاتهام بالتناسخ تعود إلى القول بالرجعة وتصديقها.
وعلّة الاتهام بالوضع تعود إلى رواية الأخبار التي عجز البعض عن قبولها لضعف مداركهم وقد ثبتت فيما بعد بواسطة المحققين.
وعلّة العلل هي عدم التبيّن الذي أمر الله جل وعلا به.

وكنّا قد ذكرنا فيما مضى بأن الشيخ (ق) قد اتّهم بالقرمطة وهذا أمر عجيب وغريب اذ كيف يتفق ذلك مع اتهام البعض له بالغلو وهما أمران متناقضان عقلاً ونقلاً فالمُغالين في أمير المؤمنين ع (وهذا إن كان لهم وجود فعليّ كما قيل) ليسوا قرامطة، والقرامطة المعروفون تاريخياً ليسوا من المغالين في الامام ع، ولكل من هاتين الفئتين اتجاهاتها الخاصة والمعاكسة للأخرى، وللمزيد من التفصيل لا بد من توضيح هذين الأمرين المتعلقين (بالقرامطة والغلاة).

  • 1 هو أبو محمد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري الذي أعطاه الشيخ الخصيبي إجازة في التاريخ سنة 344هـ.
  • 2 كليات في علم الرجال - العلامة الشيخ جعفر السبحاني ص 98.
  • 3 بحار الأنوار للمجلسي ج 25 ظ ص 347.
  • 4 كليات في علم الرجال.
  • 5 أورد السيد حسن الموسوي الخراسان في ترجمة الصدوق ما يلي:
    وإلى القارىء بعض ما عثرنا عليه من فتاواه الغريبة وآرائه الخاصة (فعدد ثمانية فتاوى ثم قال):
    جواز السهو عن النبي(ص) وسماه من الله تعإلى تبع في رأيه ذلك، شيخه محمد بن الحسن بن الوليد وتبعه على رأيه ذلك الشيخ الطبرسي في مجمع البيان كما نقل عنه التنكابني في قصص العلماء والسيد الجزائري في الأنوار النعمانية وفخر الدين الطريحي في مجمع البيان مادة (بدا) والمحقق الفيض الكاشاني في الوافي على ما يظهر من كلامه، ونقل عن البهائي رحمه الله أنه قال: (الحمد لله الذي قطع عمره ولم يوفقه لكتابة مثل ذلك).
    ونقل عن الشيخ أحمد الاحسائي أنه قال: (الصدوق في هذه المسألة كذوب).
    ولا يخلو كلامهما من سوء أدب نربأ بأمثالهما عن ذلك. - أحمد الموسوي الخرسان -.
  • 6 قال الشيخ المفيد في كتابه ( تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد ):
    وأما نص أبي جعفر رحمه الله ( أي الصدوق) بالغلو على من نسب مشائخ قم وعلمائهم إلى التقصير فليس نسبه هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، اذ في جملة المشار اليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصراً، وإنما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحققين إلى التقصير سواء كانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد وسائر الناس.
    وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي حعفر محمد بن الحسن بن الوليد رحمه الله لم نجد لها دافعاً في التقصير وهي ما حكي عنه أنه قال:
    أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي والامام ع فان صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر مع أنه من علماء القميين ومشيختهم.
    وقد وجدنا جماعة وردوا الينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمة عليهم السلام عن مراتبهم ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول أنهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. (انتهى)
  • 7 سهيل بن زياد الأدمي أتينا على ذكره فيما مضى من القول فقد روى عنه الشيخ الخصيبي ق، وهو من أساتذة الكليني، وقد عده الطوسي من أصحاب الامامين العسكريين عليهما السلام.
  • 8 قال صاحب الرواشح: (فأما الغضائري فمتسارع إلى الجرح حرد أو مبادر إلى التضعيف شططاً).
  • 9 الاحتياط في هذا المجال لا يوجب قدح الراوي واتهامه بالكفر والوضع واختلاق الحديث بل يوجب رد الرواية إلى راويها ثم النظر فيها والبحث عن معانيها وهذا أجدر بذوي العقول الثاقبة والبصائر النافزة.
  • 10 صحيفة الأبرار - العنوان الخامس.