الخَصيبي ق وحُكّام زمانه

أُضيف بتاريخ الأحد, 31/10/2010 - 11:27

عاصر الشيخ الخصيبي تسعةً من الخلفاء العباسيين في زمانه، فقد كانت ولادته سنة 260هجرية وذلك بعد مضي أربع سنين من حكم المعتمد العباسي، وتوفي سنة 346هجرية لإثني عشر سنة مَضت من حكم المطيع لله، وقد جرت في عصره أحداث كثيرة واضطراباتٌ عديدة هزّت الدولة الاسلامية من أقصاها إلى أدناها سنأتي على ذكر أهمها باختصار بعد ذكر أسماء الخلفاء الذين عاصرهم الشيخ، وذلك لاعطاء صورة واضحة عن المُعانات التي عايشها ومَرَّ بها وتَعَرَّضَ لها.

وبعد ذكر مختصر عن الأحداث والإضطرابات التي رافقت حكم الخلفاء العباسيين التسعة الذين عاصرهم الشيخ وصولاً إلى المطيع لله –كما سيتابعها القارئ- ، يورد المؤلف الشيخ حُسين المظلوم صورة مُلخصة عن أهم أحداث تلك الحقبة الزمانية نُثبتها هنا مع الخاتمة الهامة التي أنهى بها هذا الفصل. (أبو اسكندر).

قام بعد المطيع خلفاء كثيرون لا حاجة إلى ذكرهم لأن الغاية كما أوضحنا في بداية هذا الفصل ذكر الخلفاء الذين عاصرهم شيخنا الخصيبي ق، ولا بأس من إيراد صورة مُلخّصة عن أهم أحداث تلك الحقبة الزمانية:

كانت الدولة الإسلامية طول القرن الثاني وفترة من القرن الثالث الهجري مُتماسكة الأطراف، مُترابطة الأمصار إلا في القليل النادر حين تقوم ثورة من هنا، وفِتنة من هناك لا تلبس أن تنتهي وتعود الامور إلى نصابها.

فقد كانت هذه الدولة تبسط سلطانها على العراق وبلاد فارس وما وراء النهر حتى حدود الهند شرقاً، وبلاد الشام والجزيرة ومصر وجزء من شمال أفريقيا غرباً، وما أن جاء النصف الثاني من القرن الثالث حتى بدأت أركانها تتصدع، وأمصارها تستقل، وولاياتها تنفصل عنها، وأصبحت عاصمتها بغداد وِكراً للدسائس والمؤامرات، فتقلص ظل الخلافة، وذابت سطوتها، وأصبح الخليفة أسير قصوره وقوّاده، لا يكاد يملك من أمر نفسه شيئاً، إضافة إلى ذلك فهو مُهَدّد بين الحين والآخر بالخلع أو القتل، وما ذلك في يقيني إلا لأنّ هؤلاء الملوك والأمراء قد قام سُلطانهم على إراقة دماء بني هاشم، والتنكيل بشيعتهم المؤمنين.

إنّ أول انفصال جرى كان في سبحستان وذلك بقيام يعقوب الصفار وإعلان نفسه حاكماً عليها، مُنتهزاً فرصة إختلال الأمن فيها، ومن ثم إخضاعه (هراة) التي كانت في قبضة الطاهرين، فدبّ بذلك الرعب في قلب الخلافة فحاولت إسكاته، وإخماد طموحه فاقتطعته ولايات كرمان وبلخ، والسند فلم يرض بذلك بل استغل ضعف الخلافة وخوفها منه، وقام بالاستيلاء على شيراز وطبرستان ثم خراسان وفارس والمقاطعات المجاورة لهذه المناطق فاضطرت الخلافة إلى الإعتراف به رسمياً حاكماً على هذه الولايات، فزاده ذلك طموحاً ورَنا ببصره نحو بغداد وانطلق كالسهم في جيشٍ كبيرٍ بهدف الإستيلاء عليها فخرج له الموفق نائب الخليفة (المعتمد) على رأس جيش لا يقل قوة عن جيشه، والتقى الجيشان عند (دير عاقول) جنوب بغداد لقاء المستميت، فانهزم الصفار هزيمة بالغة، وانسحب إلى تخوم العراق، فاحتفظ بالولايات التي اعترفت بها الخلافة، وبعد موته خلفه أخاه عمرو بن ليث، وعقد معاهدة مع نائب الخليفة الموفق أصبح بموجبها والياً على ما فتحه أخوه من المدن.

وفي طبرستان قام مرداويج بحركة عسكرية فتغلب على الزيدية المقيمين بها، وأصبح حاكماً عليها، وكان تحت إمرته بويه الديلمي الذي كان له من الأولاد علي وحسن وأحمد فتولّى علي حكم الكرج من قبل مرداويج، وتمكّن بمعاونة أخوته من إحتلال أصفهان ثم فارس، وجعل من شيراز عاصمة له ثم اتسَعَت هذه الإمارة الجديدة لتمتد إلى بلاد الجبل وكرمان، وقام أخوه أحمد بن بويه بالاستيلاء على بغداد عاصمة العباسيين، وتربع على دست الحكم فأطلق عليه الخليفة لقب (معز الدولة).

وفي جزيرة العرب ثار يحيى بن الحسين الرسى وأقام دولة اتخذت من العقيدة الزيدية مذهباً، وكان مقرّها مدينة صَعدة في اليمن فأصلح بين القبائل المتنابذة ووحّدها، وانفصل عن الدولة العباسية انفصالاً تاماً، واستمر مُلكه حتى سنة 299هـ وترك لأبنائه مُلكاً ثابت الأركان لم يلبثوا إلا قليلاً حتى بسطوا سُلطانهم على البلاد كلها.

وفي سنة 323هـ أعلن الوالي العباسي محمد بن طغج الإخشيد إمرته على مصر، واستقل بها، ولم يخضع إلى الخليفة العباسي إلا من الناحية الإسمية، ومن ثم بسط سلطانه على الشام، وولّى الولاة من قبله على دمشق وحلب فبقيت كل من مصر والشام تحت حكم الإخشيد مستقلتين عن بغداد حتى سنة 358هـ، باستثناء منطقة حلب التي انتزعها سيف الدولة قتالاً سنة 333هـ كما أسلفنا.

لم يقف الأمر عند هذا الحد من ثورة الولاة واستقلالهم بالبلاد، بل شاعت فتن لا تُحصى، وكَثُرَت الإضطرابات في قصور الخلفاء الذين أصبحوا كالدُمى في أيدي الوزراء والقُوّاد، وفي تلك الأجواء المُكفهرة، والمُتغيرات المستمرة قامت ثورة الزنج مُنطلقة من البَصْرَة بقيادة رجلٍ اسمه علي بن محمد، فاستولوا على ضواحيها، ولقت جيوش الخليفة منهم شر الهزائم، ثم أقاموا عاصمة لمنطقتهم وذلك ببناء بلدة جديدة أطلقوا عليها إسم المختارة، وتوجهوا شرقاً على خوزستان، واتّسعت رُقعتهم وازداد خطرهم، فتصدّى لهم المُوفق، وبنى بالقرب من عاصمتهم مدينة أطلق عليها اسم الموفقية، وظل يَغير عليهم بين الحين والآخر حتى سَقطت المختارة على يد أحد قُوّاده، فقضى على هذه الثورة التي دامت حوالي خمسة عشر عاماً.

ثم جاءت الطامة الكبرى بقيام حركة القرامطة التي نشأت فكرتها في العراق سنة 277هـ، وأنشأها رجل يُدعى حمدان قرمط فنُسبت إليه، ولم يقتصر خطرها على العراق فقط بل امتد إلى سورية، وتمكنوا من تحريك الأعراب الذين عاثوا في البلاد فساداً، واستولوا على حمص وحماه وقتلوا أهلها، وأبادوا سُكان السَلميّة، ورغم نشاط الخلافة في محاربتهم وقتل أكثر من واحد من زعمائهم إلا أنهم كانوا قد ثبّتوا أقدامهم في بلاد العرب، وخاصة في منطقة الإحساء وأنشأوا دولة مُستقلة وبَنوا عاصمة لها أطلقوا عليها اسم (المؤمنية) بدلا من هجر العاصمة القديمة.

كل هذه الأمور التي ذكرناها وما تشعب عنها كانت السبب المباشر الذي شجع الروم على أن يَغيروا على الثّغور الإسلامية ، وأن ينتقموا لأنفسهم مما قد أصابهم من هزائم في الماضي، فأغاروا على ديار بكر غَيْرَ مَرّة، وأصابوا نجاحاً في هزيمة المسلمين.
ولولا شجاعة الحمدانيين ورباطة جأشهم، وقوّة عزيمتهم، وصحّة عقيدتهم التي دفعتهم لصد اكثر تلك الغارات لما كان لبلاد المسلمين أثرٌ يُذكر ، ولا نريد الخوض في مآثرهم الكثيرة فكُتُب التاريخ شاهدة على بطولاتهم، وجهادهم.

وختاماً أقول:

إنّ من يتمعن في هذه الأحداث التي وقعت في تلك الحقبة الزمانية التي قضاها الشيخ الخصيبي فسيتعرف من خلالها على المُعانات الكثيرة التي لاقاها وتعرَّض لها أبّانَ قِيامه بواجباته الدينية المُنصَبَّة في الوعظ والإرشاد والتدريس لعُلوم الائمة المعصومين عليهم السلام، وقد تعرض لكثير من المصائب الأليمة والنوائب الجسيمة التي لم تصرفه عن واجبه المقدس، وذلك لقوة عزيمته، وصحة عقيدته التي أَبَتْ عليه اليَأس والخُمول، بل كُلما تَعَرّض لنكبة ازدادت ثقتُه، واشتدّت هِمّته لمُتابعة ما بَدأهُ من مسيرة الجهاد في سبيل الولاية.

وإننا لو تأملنا مُجريات التاريخ الذي استعرضناه، وسيرة الخلفاء والفقهاء لتبيّنت لنا أسبابُ اتهام الشيخ بما لا ينسجم مع عقيدته العلوية، حيث أنّ فقهاء ذلك الزمان الأغبر الأعور كانوا يكيلون التُهَم ويُلصقونها بمن خالف مذهبهم، فعلى سبيل المثال:
إنّ اتهام الشيخ بالقرمطة كان سبباً لِزَجِّهِ في ظُلمات السجون، حيث أنّ هذه الدّعوة الخطيرة كانت تُشكل خَطراً على الخُلفاء وعلى الأمة جَمعاء، فلِمُجَرّد شك الخليفة بأنّ أحَداً اعتنقها كان عِقابه المَوتُ أو السِجنُ، ولمْ يَكن ذلك العِقاب مُنطلقاً من غيرته على الدين أو الأمّة بل خوفاً على سُلطانه، فاستغل بعضهم هذه المخاوف وراح يلقي بهذه التهمة على كل من شاء أذيته والحط من كرامته، وكنّا قد ألمحنا إلى هذه الناحية سابقاً.
وإضافة إلى ذلك فإن حسد الفقهاء وتعصب بعض الولاة والأمراء كان لهما الدور الفعّال في عدم استقرار الشيخ في مكان يَطمئن إليه ممّا اضطره ذلك إلى كثرة الانتقال من مدينة إلى أخرى طلباً للأمن والأمان وذلك لمتابعة رسالته النبيلة.
وقد أحيا الشيخ في مسيرته المعطائة الكثير من القلوب المتلهفة والمتعطشة لغدران الولاية، فأعقب رجالاً عقم الزمان أن يأتي بمثلهم، وراحوا يُتابعون مَسيرة شيخهم في نشر فضائل أئمتهم عليهم السلام، وترسيخ نهجهم، فكانوا الزاد الفكري النَيِّر لأبناء هذه الطائفة المسلمة العلوية، المؤمنة بولائها لمن أمر الله بولائهم في الكتاب 1 ، والرسول في صريح الخطاب 2 ، ولكن ظلم الحكام الطغاة البغاة، والملاحقات التي جرت تحت رعايتهم وبأمرهم أضاعت الكثير من مؤلفات هؤلاء الشيوخ الأجلاء حرقاً وردماً وتمزيقاً وتمييعاً فخسرت هذه الطائفة خاصة، والمكتبة الإسلامية عامة ثروة ثقافية ضخمة يعجز الفكر الإنساني عن تعويضها 3 ، حيث أننا أوضحنا سابقاً بأن الشيخ كان يروي عن الأمناء الصادقين والمعاصرين للمعصومين عليهم السلام، وكان يلقي تلك الأخبار والأجوبة والفتاوى على تلامذته، وكانوا بدورهم يدوّنونها في صحائفهم، فأورثوها إلى تلامذتهم وأبنائهم التابعين، ولكن الحروب الكثيرة، والملاحقات التي ذكرتها، والهجرات العديدة كانت من أهم عوامل ضياعها ممّا دفع ذلك ببعض المَغرورين إلى إتهام هذه الطائفة بالجهل، وقِلّة العِلم، وعَدَم التأليف، وما أنْ بزغت شمس الحرية على ربوع أهل الولاية إلا وانطلقت العقول النيّرة الوقّادة للبروز على ساحة العلم والمعرفة بكافة فروعها، فأنتجت كَمّاً لا يُستهان به من الأدب والشعر والفلسفة واللغة والفقه والبيان يمتاز على غيره كيفاً.

  • 1 ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ .(المائدة 55)
    أكدت أكثر كتب التفسير على نزول هذه الآية في الإمام علي بن أبي طالب ع وذلك عندما تصدق بخاتمهِ وهو راكع في صلاته. فليراجع التفسير الكبير للفخر الرازي- الكشاف للزمخشري- الدر المنثور للسيوطي- مجمع الزوائد للهيثمي- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني- تفسير الطبري- تفسير القرطبي- اسباب النزول للواحدي- تفسير ابن كثير- تفسير النسفي- احكام القرآن للجصاص- جامع الأصول لإبن الأثير- تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنبلي- ينابيع المودة للقندوزي الحنفي- الفصول المهمة لإبن صباغ المالكي- مطالب السؤول لإبن طلحة الشافعي وغيرها من المصادر.
    فتصدير الآية بـ(إِنَّمَا) وهي من أقوى أدوات الحصر يَفيد بأنّ الولاية هنا من اختصاص الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب ع وهذه الولاية الحقة لأمير المؤمنين لها امتدادٌ في أبنائهِ المعصومين عليهم السلام الحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء وعلي سيد العابدين، محمد الباقر جعفر الصادق موسى الكاظم علي الرضا محمد الجواد علي الهادي الحسن العسكري الإمام محمد بن الحسن الحجة عليهم السلام، وهذا مما لا خلاف فيه عند أهل الولاية.
  • 2 ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
    إني أوشك أن أُدْعَى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض وعُترتي أهل بيتي وإنَّ اللطيفَ الخبير اخبرني أنهما لن يفترقا حتى يَردا عليَّ الحوض، فأنظروا كيف تخلفوني فيهما.
    وإنّ هذا الحديث المعروف بحديث الثقلين قد بلغ حد التواتر والاشتهار، فقد دوَّنته كُتب الحديث والتفسير والتاريخ والسِيَر والتراجم واللغة نذكر منها على سبيل الإختصار:
    المستدرك على الصحيحين للحاكم ج3، الدر المنثور للسيوطي ج2، جامع الأصول لإبن الأثير ج1، المعجم الكبير للطبراني ص137، احياء الميت للسيوطي ص30-32، مجمع الزوائد للهيثمي ج9، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص84-85، ينابيع المودة للقندوزي الباب4، مصابيح السنة للبغوي ص206، ذخائر العقبي للطبري ص16، اسد الغابة في معرفة الصحابة لإبن الأثير الشافعي ج2، تفسير الخازن ج1، مناقب علي بن أبي طالب لإبن المغاذلي الشافعي ص234، فرائد السمطين للحمويني الشافعي ج2، كنز العمال للمتقي الهندي ج1، الطبقات الكبرى لإبن سعد ج2، نظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص232، الفتح الكبير للنبهاني ج1، الصواعق المحرقة لإبن حجر ص194، المعجم الصغير للطبراني ج1، تاج العروس للزبيدي ج7، القاموس للفيروز ابادي ص1256 وغيرها.
  • 3 من جملة المكتبات التي أُحرقت في بغداد: خزانة كتب بين السورين التي تحدّث عنها الحموي بقوله: لم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المُعتبرة وأصولهم المُحَرّرة. واحترقت في ما أحرق من محال الكرخ عند ورود ضغرل بك أوّل ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة 447هـ.