ج18 : ما الفرق بين المُداراة والنّفاق؟ إطلاق النعوت والأحكام على الآخرين؟ ما هو المقياس في معاملة الناس؟

أُضيف بتاريخ الثلاثاء, 01/12/2015 - 11:34
السائل أبو اسكندر في 17\آذار\2015م
السلام عليكم سيدي.
ما الفرق بين المداراة والنفاق؟
البعض عندما تنصحه بالمداراة يقول: أنا لا أُنافق! مع العلم أمرنا المعصومون بالمداراة..
كيف ينبغي أن تكون مخالطتنا وعشرتنا للناس؟
وعظّم الله أجركم.

بَيَانُ الإِجَابَةِ عَنِ السُّؤَالِ

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّيْنَ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِيْن.

أَمَّا بَعْدُ: فَالسَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه.

المُدَارَاةُ فِي الأَصْلِ بِمَعْنَى (( الخَتْلِ وَالخِدَاعِ )) 1

وَالنِّفَاقُ (( إِخْفَاءُ شَيءٍ وَإِغْمَاضُهُ )) 2

فَيُقَالُ: (( دَارَيْتُ الرَّجُلَ: إِذَا تَوَصَّلْتُ إِلَى المَطْلُوبِ مِنْ جِهَتِهِ بِالحِيْلَةِ وَالخَتْلِ )) 3

وَالنِّفَاق:

(( إِظْهَارُ الإِيْمَانِ مَع إِسْرَارِ الكُفْرِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ تَشْبِيْهًا بِمَا يَفْعَلُهُ اليَرْبُوعُ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ بِجُحْرِهِ بَابًا ظَاهِرًا وَبَابًا بَاطِنًا يَخْرُجُ مِنْهُ إِذَا طَلَبَهُ الطَّالِبُ، وَلا يَقَعُ هَذَا الاسْمُ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ شَيئًا وَيُخْفِي غَيْرَهُ إِلاَّ الكُفْرَ وَالإِيْمَانَ، وَهُوَ اسْمٌ إِسْلامِيٌّ.

وَالإِسْلامُ وَالكُفْرُ: اسْمَانِ إِسْلامِيَّانِ، فَلَمَّا حَدَثَا وَحَدَثَ فِي بَعْضِ النَّاسِ إِظْهَارُ أَحَدِهِمَا مَع إِبْطَانِ الآخَرِ، سُمِّيَ ذَلِكَ نِفَاقًا...)) 4

وَكُلُّ فِعْلٍ إِنَّمَا يَكْسِبُ دَلالَتَهُ بِحَسَبِ الاسْتِعْمَالِ، وَقَدْ يُنْقَلُ مِنَ الأَصْلِ اللُّغَوِيِّ إِلَى غَيْرِهِ، فَتُعَدُّ بَعْضُ الأَسْمَاءِ شَرْعِيَّةً، وَيُعَدُّ بَعْضُهَا عُرْفِيًّا، وَذَلِكَ بِحَسَبِ اسْتِعْمَالِ الاسْمِ فِي الشَّرْعِ، وَفِي العُرْفِ، وَقَدْ يُسَمَّى مَنْقُولاً إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي اصْطِلاحٍ مَا بِمَعْنىً خَاصٍّ بِذَلِكَ الاصْطِلاحِ.

فَتَكُونُ المُدَارَاةُ فِي بَعْضِ المَوَاضِعِ بِمَعْنى اللُّطْفِ فِي القَولِ وَفِي الفِعْلِ، فِيْمَا يُرَادُ بِهِ الخَيْرُ، فَتَخْرُجُ بِذَلِكَ عَمَّا يُعَدُّ احْتِيَالاً بِمَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الاحْتِيَالِ فِي أَيَّامِنَا هَذَا، مَع أَنَّهُ فِي الأَصْلِ اللُّغَوِيِّ لا يَدُلُّ عَلَى غِشٍّ وَلا عَلَى خِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَى حُسْنِ حِيْلَةٍ وَتَدْبِيْرٍ.

وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الحَدِيْثِ النَّبَوِيِّ دَلِيْلٌ عَلَى مَجِيْئِهِ بِمَعْنَى اللُّطْفِ فِي الدَّعْوَةِ وَالرِّفْقِ فِي تَبْلِيْغِ الرِّسَالَةِ، وَمِنْهُ قَولُ رَسُولِ اللهِ :

(( أُمِرْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرْتُ بِتَبْلِيْغِ الرِّسَالَةِ )) 5

فلا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيءٌ مِنَ السُّوءِ، وَلا يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بِشَيءٍ مِنَ القَبِيْحِ، وَقَدْ جَعَلَ نِصْفَ الإِيْمَانِ فِي المُدَارَاةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

(( مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الإِيْمَانِ، وَالرِّفْقُ بِهِم نِصْفُ العَيْشِ )) 6

فَالمُدَارَاةُ بِمَعْنَى اللُّطْفِ وَالرِّفْقِ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ، مِنْ سُنَنِهِ ، وَشَرْطُ صِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَضْمَنَ للنَّاسِ حُقُوقَهُم، عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ :

(( رَأْسُ العَقْلِ بَعْدَ الإِيْمَانِ بِاللهِ، مُدَارَاةُ النَّاسِ فِي غَيْرِ تَرْكِ حَقٍّ..)) 7

فَكُلُّ مُلاطَفَةٍ وَمُجَامَلَةٍ لا تُبْطِلُ حَقًّا، صَحِيْحَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَلا بَأْسَ عَلَى فَاعِلِهَا، إِنْ شَاءَ اللهُ، وَذَلِكَ لأَنَّ حُسْنَ الخُلُقِ أَفْضَلُ مَا يُرْزَقُ المُؤْمِنُ.

وَالنِّفَاقُ عَلَى مَا جَاءَ فِي القُرْآنِ الكَرِيْمِ مِنِ اتِّخَاذِ الدِّيْنِ مَطِيَّةً إِلَى الدُّنْيَا وَمُخَادَعَةِ النَّبِيِّ مُخَادَعَةً تُبْطِلُ حَقًّا أَو تَكُونُ سَبَبًا للأَذَى، حَرَامٌ فِعْلُهَا، وَآثِمٌ فَاعِلُهَا، لِمَا يَنْشَأُ عَنْ فِعْلِهِ مِنَ الضَّرَرِ.

وَذَلِكَ أَنَّهُ يُظْهِرُ أَمْرًا وَيُبْطِنُ خِلافَهُ، كَأَنْ يُظْهِرَ المَوَدَّةَ، فَإِذَا تَمَكَّنَ آذَى أَو أَبْطَلَ حَقًّا، لِمَا يُضْمِرُ مِنَ الشَّرِّ.

فَمِنَ النِّفَاقِ مَا يُعْرَفُ بِالفِعْلِ، أَي: يُظْهِرُهُ مَنْ يُشَكُّ فِي أَمْرِهِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ الضَّرَرُ، وَمِنْهُ مَا لا يَخْرُجُ عَنِ اللَّفْظِ، فَلا يُضِرُّ أَحَدًا.

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نِفَاقِ فَاعِلِهِ، إِغْوَاءُ النَّاسِ وَتَسْويْلُ الاعْتِدَاءِ لَهُم، بِتَزْيِيْنِ المَعْصِيَةِ، وَالاسْتِهَانَةِ بِهَا، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 67 [ سورة التوبة]

وَفِي الأَمْرِ بِالمُنْكِرِ وَالنَّهْي عَنِ المَعْرُوفِ، الإِضْرَارُ بِالخَلْقِ وَهَضْمُ الحُقُوقِ، فَهَذَا بَيِّنٌ لا يُلامُ مَنْ يَصِفُ فَاعِلَهُ بِالنِّفَاقِ بَعْدَمَا بَيَّنَتْهُ الآيَةُ.

وَللمُنَافِقِيْنَ عَلامَاتٌ، مِنْهَا فِي سُورة المُنَافِقون، فِي قَولِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ 5

وَفِي قَولِهِ: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ 7 يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ 8

وَمَا لَمْ يُؤْذِ المَخْلُوقُ أَحَدًا، فَلا يُؤْذَ، وَمِنْهُ قَولُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا 48 [ سورة الأحزاب]

وَلَيْسَ عَلَيْنَا الكَشْفُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ، آَمَنَ أَمْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَّهِمَهُ بِالنِّفَاقِ إِلاَّ إِذَا أَفْسَدَ حَقًّا أَو أَبْطَلَهُ أَو أَعَانَ عَلَى ضَيَاعِهِ، وَمَا أَشَدَّ ذَلِكَ؛ لأَنَّ إِطْلاقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَلَى إِظْهَارِ الإِيْمَانِ وَإِبْطَانِ الكُفْرِ، لَيْسَتْ للبَشَرِ، وَإِنَّمَا للهِ، وَهُوَ العَلِيْمُ بِمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَولُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ 101 [ سورة التوبة]
فَتَدَبَّرْ قَولَهُ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ

وَعَلَى مَا جَاءَ فِي حَدِيْثِ رَسُولِ اللهِ مِنْ بَيَانِ عَلامَاتِ المُنَافِقِ، فِي قَولِهِ:

(( وَأَمَّا عَلامَةُ المُنَافِقِ، فَأَرْبَعَةٌ:

  1. فَاجِرٌ دَخْلُهُ،
  2. يُخَالِفُ لِسَانُهُ قَلْبَهُ،
  3. وَقَوْلُهُ فِعْلَهُ،
  4. وَسَرِيْرَتُهُ عَلانِيَتَهُ،

فَويْلٌ للمُنَافِقِ مِنَ النَّارِ )) 8

يَقِفُ المُتَثَبِّتُ حَذَرَ الظُّلْمِ؛ لأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا فِي السَّرِيْرَةِ، حَتَّى يَنْظُرَ فِي مُوَافَقَتِهَا العَلانِيَةَ، وَكُلُّ مَا يُعْذَرُ فِيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى صَلاحِ السَّرِيْرَةِ بِصَلاحِ العَلانِيَةِ، وَأَنْ يَصِفَ ذَلِكَ بِالطَّيِّبِ أَو الخَبِيْثِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الأَفْعَالِ وَالأَعْمَالِ، وَأَنْ يُلْطِفَ لِمَنْ يَرَاهُ عَلَى هَذَا فِي القَولِ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الصَّوَابِ وَيُوَفَّقُ للصَّلاحِ.

وَذَلِكَ فِي رَأْيِي أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنِ اكْتِسَابِ الإِثْمِ فِي وَصْفِ أَحَدٍ بِالنِّفَاقِ، تَبَرُّؤًا مِنِ ادِّعَاءِ مَعْرِفَةِ السَّرَائِرِ، وَتَفَاؤلاً بِإِصْلاحِ المُخْطِئِ وَعَدَمِ إِغْلاقِ بَابِ التَّوبَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ أَثَرُ الكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ أَبْلَغَ مِنْ أَثَرِ التَّعْنِيْفِ وَالتَّوبِيْخِ، وَذَلِكَ أَنَّ دَخْلَ الإِنْسَانِ هُوَ نِيَّتُهُ وَبَاطِنُ أَمْرِهِ، فَكَيْفَ يَعْلَمُ أَحَدٌ نِيَّةَ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا شَيءٌ مِنْ عَمَلِهِ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَولُ رَسُولِ اللهِ : (( إِيَّاكُم وَتَخَشُّعَ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُرَى الجَسَدُ خَاشِعًا، وَالقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ )) 9

فَهُوَ تَحْذِيْرٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يُفْسِدَ سَرِيْرَتَهُ، وَلَكِنَّ عِلْمَ ذَلِكَ للهِ، فَلَيْسَ لِبَشَرٍ إِذَا رَأَى جَسَدًا خَاشِعًا أَنْ يَدَّعِيَ مَعْرِفَةَ حَالِ القَلْبِ، أَهُو خَاشِعٌ أَمْ مُخَادِعٌ، وَلا يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ بَشَرٍ فِيْمَا أَعْتَقِدُ، كَائِنًا مَنْ كَانَ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ النِّفَاقُ فِي غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِطْلاقِهِ عَلَى إِظْهَارِ الإِيْمَانِ وَإِبْطَانِ الكُفْرِ، إِلاَّ أَنَّ الوَاجِبَ اجْتِنَابُ إِطْلاقِهِ عَلَى هَذَا المَعْنَى؛ لأَنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ إِلَهِيٌّ، لا أَمْرَ لَنَا فِيْهِ، وَلا حَقَّ.

وَأَنَا أَرْغَبُ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ لَفْظٍ مَكَانَ آخَرَ، كَأَنْ يَدَّعِي أَحَدٌ الإِخْلاصَ لَكَ، فَإِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهِ فِي نَكْبَةٍ، هَجَرَكَ، كَمَنْ يَدَّعِي الصَّدَاقَةَ، فَيَتَجَاهَلُ حَاجَتَكَ، أَو يَقْعُدُ عَنْكَ مَع قُدْرَتِهِ عَلَى قَضَائِهَا وَعَدَمِ إِضْرَارِهَا بِهِ، وَأَنَا أُفَضِّلُ اجْتِنَابَهُ لِئَلاَّ يَزِيْدَ الجَفَاءَ التَّلَفُّظُ بِهِ، وَاللهُ يَغْفِرُ مَا يَكُونُ فِي الغَضَبِ وَالضِّيْقِ، بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَلا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ مَكَانَ لَفْظِ (( المُدَارَاةِ )) أَو (( المُجَامَلَةِ )) إِذَا أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَذَلِكَ مَا دَامَ كَلامًا، فَإِذَا خَرَجَ إِلَى الفِعْلِ، فَلا.

وَذَلِكَ أَنْ تَرَى مِنْ جَلِيْسٍ التَّمَلُّقَ، وَيَمْنَعُكَ الاضْطِرَارُ مِنْ جَبْهِهِ مَخَافَةَ الأَذَى وَالبَطْشِ، كَأَنْ يُظْهِرَ النُّصْحَ لَكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ فِي طَاعَتِهِ ضَرَرًا، أَو يُشِيْرَ عَلَيْكَ بِرَأْيٍ وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّ فِي اتِّبَاعِهِ أَذَىً، مِمَّا لا يُبْطِلُ حَقَّ أَحَدٍ؛ لأَنَّهُ لا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ كَلامًا، لا أَثَرَ لَهُ.

وَفِي مُجَانَبَةِ الاضْطِرَارِ عِنْدَ الابْتِلاءِ بِأَمْثَالِ هَؤلاءِ، نَفْيُ صِفَةِ الحِكْمَةِ،  عَلَى مَا جَاءَ مِنْ كَلامِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ : (( لَيْسَ الحَكِيْمُ مَنْ لَمْ يُدَارِ مَنْ لا يَجِدُ بُدًّا مِنْ مُدَارَاتِهِ )) 10

وَعَلَى هَذَا، اسْتَعْمَلَ العَلاَّمَةُ الشَّيْخ سُلَيْمَان أَحْمَد، رَحِمَهُ اللهُ، ذَلِكَ اللَّفْظَ، فِي قَوْلِهِ: 

مَالِي وَللنَّاسِ مِنْهُم مَنْ يُنَافِقُنِي
وَالحَالُ تَضْطَرُّنِي أَنِّي أُنَافِقُهُ

أَهِمُّ بِالخَيْرِ حَزْمًا لا يُوَافِقُنِي
فَكَيْفَ وَالشَّرُّ مَغْزَاهُ أُوَافِقُهُ 11

 

وَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى هَذَا، بَهَاء الدِّيْن زُهَيْر (581 ـ 656 هـ ) فِي قَولِهِ: 

أَرَى قَومًا بُلِيْتُ بِهِم
نَصِيْبِي مِنْهُمُ نَصَبِي

فَمِنْهُم مَنْ يُنَافِقُنِي
فَيَحْلِفُ لِي وَيَكْذِبُ بِي

وَيُلْزِمُنِي بِتَصْدِيْقِ الـ
ـذّي قَدْ قَالَ مِنْ كَذِبِ

وَذُو عَجَبٍ إِذَا حَدَّثْـ
ـتُ عَنْهُ جِئْتُ بِالعَجَبِ

وَمَا يَدْرِي بِحَمْدِ اللـ
ـهِ مَا شَعْبَانُ مِنْ رَجَبِ

فَلا يَنْفَكُّ يَتْبَعُنِي
وَإِنْ أَمْعَنْتُ فِي الهَرَبِ

كَأَنِّي قَدْ قَتَلْتُ لَهُ
قَتِيْلاً فَهْوَ فِي طَلَبِي

لأَمْرٍ مَا صَحِبْتُهُم
فَلا تَسْأَلْ عَنِ السَّبَبِ 12

 

عَلَى أَنَّهُ تَسْمِيَةُ مُجَامَلَةِ المُخَادِعِ نِفَاقًا مِنْ بَابِ المُشَاكَلَةِ فِي الوَصْفِ، إِلْمَاحًا إِلَى قِلَّةِ الصَّادِقِيْنَ وَكَثْرَةِ الكَاذِبِيْنَ، فَيَكُونُ تَعْبِيْرًا عَمَّا أَوْجَبَهُ الابْتِلاءُ بِأَمْثَالِ هَؤلاءِ فِي مُجَالَسَةٍ أَو مُصَاحَبَةٍ، وَمِنْهُ قَولُ المَعَرّي:

أُنَافِقُ النَّاسَ إِنِّي قَدْ بُلِيْتُ بِهِم
وَكَيْفَ لِي بِخَلاصٍ مِنْهُم دَانِي

مَنْ عَاشَ غَيْرَ مُدَاجٍ مَنْ يُعَاشِرُهُ
أَسَاءَ عِشْرَةَ أَصْحَابٍ وَأَخْدَانِ

كَمْ صَاحِبٍ يَتَمَنَّى لَو نُعِيْتُ لَهُ
وَإِنْ تَشَكَّيْتُ رَاعَانِي وَفَدَّانِي 13

 

وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ العُلَمَاءِ مِنْ بَابِ اسْتِصْغَارِ القَدْرِ وَنَفْي الكَمَالِ وَالاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيْرِ.

وَمِنْهُ قَولُ العَلاّمَة الشَّيخ سُلَيْمَان أَحْمد:

أَقُولُ لِحُبِّيَ الدُّنْيَا ذَهَابًا
    وَفِي طَبْعِي أَقُولُ لَهُ تَعَالَهْ
 14

عَلَى أَنَّ المِقْيَاسَ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ، وَلَيْسَ الانْتِمَاءُ إِلَى مَذْهَبٍ مَا مِقْيَاسًا صَحِيْحًا، وَلا يَجُوزُ ظُلْمُ أَحَدٍ بِسَبَبِ الاخْتِلافِ فِي الرَّأْي.

سُئِلَ الإِمَامُ الصَّادِقُ :

(( كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيْمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا ؟

قَالَ: تَنْظُرُوْنَ إِلَى أَئِمَّتِكُم الذِّيْنَ تَقْتَدُوْنَ بِهِم، فَتَصْنَعُوْنَ مَا يَصْنَعُوْنَ فَوَاللهِ إِنَّهُم لَيَعُوْدُوْنَ مَرْضَاهُم، وَيَشْهَدُوْنَ جَنَائِزَهُم، وَيُقِيْمُوْنَ الشَّهَادَةَ لَهُم وَعَلَيْهِم، وَيُؤَدُّوْنَ الأَمَانَةَ إِلَيْهِم..)) 15

وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [ سورة يوسف 76 ]

ثُمَّ الحَمْدُ للهِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ. 

كَاتِبُهُ 
تَمَّام أَحْمَد
18\11\2015

 

  • 1معجم مقاييس اللغة 2\273.
  • 2معجم مقاييس اللغة 5\454.
  • 3الفروق للعسكري ص241.
  • 4الفروق للعسكري ص251.
  • 5تحف العقول. مواعظ النبي وحكمه.
  • 6تحف العقول. مواعظ النبي وحكمه.
  • 7تحف العقول. مواعظ النبي وحكمه.
  • 8تحف العقول. مواعظ النبي وحكمه.
  • 9تحف العقول. مواعظ النبي وحكمه.
  • 10تحف العقول. حكم أمير المؤمنين ومواعظه.
  • 11كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد، تأليف: د. علي سليمان الأحمد، دار الفرقد\دمشق\ط2\2010م\ ص 172.
  • 12ديوان بهاء الدين زهير، دار صادر\بيروت\1980م. ص44.
  • 13ديوان لزوم ما لا يلزم، دار الكتاب العربي، تقديم د وحيد كبابة، حسن محمد، ط2\1998م. 2\509.
  • 14كتاب الإمام الشيخ سليمان الأحمد ص 169.
  • 15أصول الكافي 2\600، كتاب العشرة، (284) باب مايجب من المعاشرة، حديث(4).