رسالة الجاحظ

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 10/11/2010 - 18:02

من المفيد نقل هذه الرسالة التي كتبها الجاحظ 1 ، في تفضيل علي (ع) ، وقد ذكرها أبو الحسن علي بن السعيد فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الأربلي، وقال إنّها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمد الحسن بن عيسى المقتدر بالله. قال:

هذا كتابُ منِ اعتزلَ الـشكَّ و الظنّ، و الدعـوى و الأهواء، و أخذ باليقينِ و الثقةِ من طاعةِ اللهِ و رسولهِ (ص)، وبإجماعِ الأمـةِ بعد نبـيّـها عليه السلام بما يتضمـنه الكتابُ و السـنـة، و تركِ القولِ بالآراء، فإنها تخطئ و تصيب، لأنّ الأمـةَ أجمعـتْ أنّ النبي (ص) شاورَ أصحابـه في الأسـرى ببدر واتـفق عـلى قبولِ الفداءِ منهم، فأنزلَ الله تعـالى: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ ، فقد بان لكَ أنّ الرأيَ يخطئ و يصيب و لا يُعـطي اليقـين، و إنما الحجة ُ لله و رسولهِ و ما أجمعـتْ عليه الأمـة من كتاب الله و سـنـة نبيها.
و نحن لم ندرك النبي (ص) و لا أحداً من أصحابه الذين اختـلفـتْ الأمـة في أحقهم، فـنعـلم أيّهم أولى و نكونَ معـهم كما قال تعـالى: ﴿ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ، و نعلم أيّهم على الباطل فـنـتجنبهم.
و كما قال الله تعالى: ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ حتى أدركـنا العلمَ فطلبـنا معـرفةَ الدين و أهـله و أهلَ الصدقِ و الحق، فوجدنا الناسَ مختـلفين يبرأ بعضهم من بعض، و يجمعهم في حالِ اختلافهم فريقان:

  • أحدهما قالوا: ( إنّ النبي مات و لم يستخلف أحداً ، و جعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ) فاختاروا أبا بكر.
  • و الآخرون قالوا: ( إنّ النبي اسـتخلف عـلياً فجعـله إماماً للمسلمين بعـده ).

و ادعـى كل فريقٍ فيهم الحق، فلما رأينا ذلك وقـّـفـنا الفريقـينِ لنبحثَ و نعـلمَ المحقَّ من المبطل.
فسألناهم جميعاً: هل للناس بُـد من والٍ يُقيمُ أعـيادهم و يُحيي زكاتهم و يُفرّقها عـلى مُستحقيها، و يقضي بينهم ، و يأخذ لضعيفهم من قويهم ، و يقيم حدودهم ؟
فقالوا: لا بـد من ذلك .
فـقـلنا: هل لأحدٍ يختارُ أحداً فيوليه بغيرِ نظرٍ من كتابِ اللهِ و سـنـةِ نبيه؟
فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر .

فسألناهم جميعاً عنِ الإسلامِ الذي أمرَ الله به.
فقالوا: إنه الشهادتان، و الإقرار بما جاء من عـند الله، و الصلاة، و الصوم، و الحج بشرط الإستطاعة، و العمل بالقرآن يحلُّ حلالُـه و يحرمُ حرامـُه.
فقبلنا ذلك منهم لإجماعـهم.

ثم سألناهم جميعـاً : هل للهِ خيرةٌ من خلـقه اصطفاهم و اختارهم؟
فقالوا : نعـم.
فـقلنا : ما برهانكم؟
فقالوا : قوله تعـالى ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ .

فسألناهم : منِ الخيرة؟
فقالوا : هم المـتـقـون.
فـقلنا : ما برهـانكم؟
فقالوا : قوله تعـالى ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ .

فـقلنا : هل للهِ خيرةٌ من المتـقين؟
قالوا : نعـم، المجاهدون بأموالهم بدليلِ قوله تعـالى ﴿ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾ .

فـقلنا : هل للهِ خيرةٌ من المجاهدين؟
قالوا جميعاً : نعـم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهادِ بدليلِ قوله تعـالى ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ .
فقبلنا ذلك منهم لاجتماعهم عـليه، و عـلمنا أن خيرة اللهِ من خلقهِ المجاهدون السابقون إلى الجهاد .

ثم قلنا : هل لله منهم خيرة؟
قالوا : نعم.
قلنا : من هم؟
قالوا : أكثرهم عناءاً في الجهاد، و طعـناً و ضرباً و قتلاً في سبيل الله بدليل قوله تعـالى ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ )، و قوله (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ ﴾ .
فقبلنا ذلك منهم و علمنا و عرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناءاً و أبذلهم لنفسه في طاعةِ الله و أقـتلهم لعدوه.

فسألناهم عن هذين الرجلين، عـلي بن أبي طالب و أبي بكر، أيهما كان أكثر عناءاً في الحربِ و أحسنَ بلاءاً في سبيل الله؟
فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين عـلي بن أبي طالب (ع) أنه كان أكثر طعـناً و ضرباً، وأ شد قتالاً و أَذَبَّ عن دين الله و رسوله.
فـثـبت بما ذكرناه من إجماعِ الفريقينِ و دلالةِ الكتابِ و السنة أن عـلياً أفضل.

و سألناهم ثانياً عن خيرته من المتقين ؟
فقالوا : هم الخاشعون، بدليل قوله تعالى ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ ، و قال تعالى ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ﴾ .

فسألناهم : من الخاشعون؟
فقالوا : هم العلماء، لقوله تعالى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾ .

ثم سألناهم جميعاً : مـَن أعلمُ الناس؟
قالوا : أعلمهم بالقول، وأهداهم إلى الحق، و أحقهم أن يكونَ متبوعاً و لا يكون تابعاً، بدليل قوله تعالى ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ﴾ فجعلَ الحكومة لأهـلِ العـدل.
فقبلنا ذلك منهم.

و سألناهم عـن أعلم الـناس بالعـدلِ، مـَن هو؟
قالوا : أدلـُّهم عليه.
قلنا : فمن أدلّ الناس عليه؟
قالوا : أهداهم إلى الحق، وأحقهم ان يكون متبوعاً و لا يكون تابعاً بدليل قوله تعالى ﴿ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ﴾ فـدل كتابُ الله و سنة نبيه عليه السلام.

  و الإجماع: أنّ أفضل الأمة بعد نبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتـقاهم، وإذا كان أتـقاهم كان أخشاهم، و إذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدل عـلى العدل، و إذا كان أدل عـلى العدل كان أهدى الأمةِ إلى الحق، و إذا كان أهدى الأمة كان أولى أن يكون متبوعـاً، وأن يكون حاكماً لا تابعـاً و لا محكومـاً.
و أجمعـت الأمة بعـد نبـيها (ص)، أنه خلف كتاب الله تعـالى ذكـره، و أمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر، و إلى سنة نبـيه (ص) فيتـدبرونهما و يسـتـنبطوا منهما ما يزول به الإشتباه، فإذا قرأ قارئهم ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ فيقال له : أثـبـتْـها .
ثم يقرأ ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ وفي قراءة ابن مسعود – إنّ خيركم عند الله أتقاكم – ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ . هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ .
فدلتْ هذه الآية على أنّ المتـقين هم الخاشعـون.
ثم يقرأ فإذا بلغ قوله ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾ .
فيقال له: إقرأ حتى ننظرَ هلِ العلماء أفضلَ من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ إلى قوله تعالى ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ علم أن العلماءَ أفضل من غيرهم.
ثم قال: يقال : اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ .
قيل : قد دلتِ الآية على أنّ الله قد اختار العلماءَ و فضّـلهم و رفعهم درجات، وقد اجتمعتِ الأمة على أنّ العلماءَ من أصحابِ رسولِ الله (ص) الذين يؤخذ عنهم العلمُ كانوا أربعة: ( علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت ) .
و قالت طائفةٌ : عمر.
فسألنا الأمة : مـَن أولى الناس بالتـقـديم إذا حضرت الصلاة؟
فقالوا : إنّ النبي (ص) قال ( يؤم القومَ أقرؤهم ) .
ثم أجمعوا على أنّ الأربعة كانوا أقرأ من عمر ، فسقط عمر.

ثم سألناهم : أيُّهُم أولى بالإمامة؟
فأجمعوا على أنّ النبي (ص) قال: ( الإمامة من قريش ) .
فسقط ابن مسعود و زيد بن ثابت، و بقي علي بن أبي طالب و ابن عباس.

فسألنا : أيهما أولى بالإمامة؟
فأجمعوا على أن النبي قال: ( إذا كان عالمان فـقيهان من قريش ، فأكبرهما سناً و أقدمهما هجرة ) ، فسقط عبد الله بن عباس و بقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحق بالإمامةِ لما أجمعـتْ عـليه الأمـة، ولدلالةِ الكتابِ و السنة.

انتهى حديث الجاحظ. 2

♦ ♦ ♦   ولا يخفى على أهل العقل والإنصاف أنّ أفضلية أمير المؤمنين (ع) تُظهرها دلائل عديدة منها:
أنّه كان أكثر الصحابة جهاداً بين يدي رسول الله ص وآله وأوسعهم علماً وفقهاً، والدليل على ذلك رجوع الكل إليه.
وأعبدهم لله، وأسخاهم كفاً، وأزهدهم نفساً، وأحلمهم على أعدائه، وأشرفهم خلقاً، وأقدمهم إيماناً، وأفصحهم لساناً، وأسداهم رأياً، وأكثرهم حرصاً على إقامة حدود الله، وأحفظهم للكتاب والسنّة.
» وقد انفرد بخصائص لم تكن لغيره من الصحابة، منها:
إخباره بالغيب، وظهور المعجزات على يديه، واستجابة دعائه، وأنّه الأقرب إلى رسول الله ص وآله، ومؤاخاة الرسول له بعد مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، ووجوب مودّته كما في قوله تعالى: ﴿ لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ ومساواة الرسول ص وآله له بالأنبياء كما في قوله ص وآله:
( من أراد أن ينظر إلى آدم ع في عمله وإلى نوح ع في تقواه، وإلى إبراهيم ع في حلمه، وإلى موسى ع في هيبته، وإلى عيسى ع في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب ع ) .
إلى ما هنالك من الفضائل الدالة بصريح العبارة على أنّه أفضل الصحابة، وأرفعهم قدراً، وأحبّهم إلى الله، وأقربهم من رسوله (ص وآله) .

» وقد قال الخليل بن أحمد النحوي: " احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكل دليلٌ على أنّه إمام الكل " .
وسُئِلَ أيضاً عن مدحه فقال: " ما أقول في مدح امرءٍ كَتَمَتْ أحبّاؤه فضائله خوفاً، وأعداؤه حسداً، ثم ظهر منها ما بين الكتمتين ما ملأ الخافقين " .

  • 1 الجاحظ هو:

    عمرو بن بحر بن محبوب الكناني المتوفي سنة 250هـ وقيل 255هـ ، وكان تلميذ النظام، وهو من رؤساء المعتزلة ومُتكلميهم، وله شُهرة عظيمة في أدبه، كما أنّ له مؤلفات كثيرة في شتّى العلوم والفنون، اتّصل بالحُكّام والأمراء والخلفاء، وتقرّب إليهم بتصنيف الكتب والرسائل، وبها يتعصّب لمذهبه ويَعضد بها آراءهم وينقض بها آراء مُخالفيهم، طلباً لجوائزهم ونيلاً لرفدهم، ولم يكن الحق رائده، فكم جاء بقولٍ وأتى بعده بما يُناقضهُ، فهو مُتقلّب الرأي ضعيف العقيدة.
    قال عنه الذهبي: كان الجاحظ من أهل البِدَع.
    وقال ابن داوود: الجاحظ أثق بظرفه ولا أثق بدينه.
    وقال الإسكندري: الجاحظ كان عثمانياً يتنصّب، يُفضّل عثمان على علي..
    ومع هذا نقلنا هذه الرسالة لما تحوي من الفوائد الجَمّة، والدلائل المُهمّة، ولأنّ الرجل يُصرّح بها بأنّه عاد إلى رُشده، وأفلت من عقال هواه، وأخذ باليقين وترك الشك والظن. والله أعلم بالنوايا..

  • 2 نُقِلَ هذا الخبر عن كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر.