نص ابن أبي الحديد

أُضيف بتاريخ الأربعاء, 10/11/2010 - 18:02

نختم هذا الفصل بما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي في هذا الخصوص. قال:

وأما فضائله (عليه السلام) فإنها قد بلغت من العظم والانتشار مَبلغا يسمج معه التعرّض لذكرها والتصدّي لتفصيلها فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى ابن خاقان وزير المتوكل والمعتمد رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمُخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوبٌ إلى العجز مُقصّر عن الغاية فانصرفتُ عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكّلت الأخبار عنك إلى علم الناس بك.

فما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل ولا يُمكنهم جَحْدُ مناقبه ولا كِتمان فضائله فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في مشرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حِيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه ووضع المعائب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه بل حَبسوهم وقتلوهم ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو ترفع له ذكرا حتى حظروا أن يُسمى أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً، وكان كالمسك كلما سُتر انتشر عرفه وكلما كُتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تُستر بالراح وكضوء النهار إن حُجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة أخرى.

وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة وتنتمي إليه كل فرقة وتتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومُجلي حلبتها كل من برع فيها بعده فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتدى.

وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم ومن كلامه (عليه السلام) اقْتُبِس وعنه نُقِلْ وإليه انتهى ومنه ابتدأ، فإنّ المُعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل وأرباب النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه (عليه السلام).
وأمّا الأشعرية فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بالآخرة إلى استاذ المعتزلة ومعلمهم ، وهو علي بن أبي طالب ع.
وأمّا الإمامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر.

»   ومن العلوم علم الفقه وهو عليه السَّلام أصله وأساسه وكل فقيه في الإسلام فهو عبال عليه، ومُستفيد من فقهه حيث أرجع فقه الشافعي إلى أنَّه قرأ على مُحمَّد بن الحسن الشيباني وقرأ الشيباني على أبي حنيفة. وقرأ أبي حنيفة على جعفر بن مُحمَّد الصادق، وقرأ جعفر على أبيه عليهما السَّلام، وينتهي الأمر إلى عليّ عليه السَّلام. وأمَّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على أمير المؤمنين عليّ‏ِ عليه السَّلام. وإن شئتَ فرَدَدْتَ إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
وأما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر .
وأيضاً فان فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس ، وكلاهما أخذا عن علي عليه السلام ، أما ابن عباس فظاهر ، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة ، وقوله : غير مرة " لولا علي لهلك عمر " وقوله : " لا بقيت لمعضلة ليس لها أبوحسن " وقوله : " لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر " فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.
وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله : " أقضاكم علي " والقضاء هو الفقه ، فهو إذن أفقهم !
روى الكل أيضا أنه قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا : " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين .
وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر ، وهو الذي أفتى به في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية : صار ثمنها تسعا ، وهذه المسألة لو أفكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب ، فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالا.

»   ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ومنه فرع ، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لان أكثره عنه وعن عبدالله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته وانقطاعه إليه ، وإنه تلميذه وخريجه وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط .

»   ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف ، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد والسري وأبو يزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي، و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم ، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام .

»   ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه وأملى على أبى الاسود الدؤلي جوامعه وأصوله ، من جملتها : الكلمة ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف ، ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم ، وهذا يكاد يحلق بالمعجزات لان القوة البشرية لاتفي بهذا الحصر ولا تنهض بهذا الاستنباط .

»   وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.

»   أما الشجاعة فإنه أنسى قبله ومحا اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الامثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي مافر قط ، ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى الثانية، وفي الحديث : كانت ضرباته وترا.
ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو : لقد أنصفك ، فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أتأمرني بمبارزة أبي حسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي ، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر ، قالت أخت عمرو بن عبدود ترثيه .

لو كان قاتل عمرو غير قاتله   بكيتـه أبدا مـا دمت في الابد
لــكن قــاتله من لا نظيــر لــه   وكان يدعى أبوه بيضة البلد

وانتبه معاوية يوما فرأى عبدالله بن زبير جالسا تحت رجليه على سريره ، فقال له عبد الله يداعبه : يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت ، فقال : لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال : وما الذي تُنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لا جَرَم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها.
وجملة الامر أنّ كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، وباسمه يُنادي في مشارق الارض ومغاربها .

»   وأما القوة والأيد فبه يُضرب المثل فيهما ، قال ابن قتيبة في المعارف : ما صارع أحدا قط إلا صرعه ، وهو الذي قلع باب خيبر ، واجتمع عليه عُصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيماً جداً، فألقاه إلى الارض ، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ( عليه السلام ) بعد عجز الجيش كله عنها ، فأنبط الماء من تحتها.

»   وأما السخاء والجود فحاله فيه ظاهرة ، كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده ، و فيه انزل ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ﴾ الإنسان\8\9.
وروى المُفسرون أنّه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانيةً ، فانزل فيه ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ البقرة\247.
وروي عنه أنه كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده ، ويتصدق بالاجرة و يشد على بطنه حجرا.
وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحب الله، السخاء والجود ؟ ما قال " لا " لسائل قط.
وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال : جئتك من عند أبخل الناس : ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس ولوملك بيتا من تبر وبيتا من تبن لانفد تبره قبل تبنه ؟ وهو الذي كان يكنس بيوت الاموال ويصلي فيها ، وهو الذي قال : يا صفراء، ويا بيضاء، غرّي غيري ، و هو الذي لم يخلف ميراثا وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام .

»   وأما الحلم والصفح فكان أحلم الناس من ذنب وأصفحهم عن مسئ ، و قد ظهرت صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم ، وكان أعدى الناس له وأشدهم بغضا ، فصفح عنه.
» وكان عبدالله بن الزبير يشتمه على رؤوس الاشهاد ، وخطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغب اللئيم علي بن أبي طالب وكان علي عليه السلام يقول : مازال الزبير رجلا منا أهل البيت ، حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه وقال : اذهب فلا أَرَيَنّكَ ، لم يَزِدْهُ على ذلك .
» وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدوا فأعرض عنه ولم يقل له شيئا.
» وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبدالقيس ، عمّمهن بالعمائم وقلّدهن بالسيوف ، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأنّفت ، و قالت : هتك سري برجاله وجنده الذين وكّلهم بي ، فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها : إنما نحن نسوة .
» وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف ، وشتموه ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، ونادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لايتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا يقتل مستأثر ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن ، ولم يأخذ أثقالهم ولاسبى ذراريهم ولا غنم شيئا من أموالهم ، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو ، وتقبل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة ، فإنه عفا والاحقاد لم تبرد والاساءة لم تنس.
» ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات وقالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يسوغوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمئا كما مات ابن عفان ، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتلٍ ذريعٍ سقطت منه الرؤوس والأيدي ، وملكوا عليهم الماء ، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم ، فقال له أصحابه وشيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، ولا تسقهم منه قطرة ، واقتلهم بسيوف العطش ، وخذهم قبضا بالأيدي ، فلا حاجة لك إلى الحرب ، فقال : لا والله لا أكافيهم بمثل فِعلهم ، أفسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففي حدّ السيف ما يُغني عن ذلك.
فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا ، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام .

»   أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين ، و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له ؟ وقد عرفت أنّ أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل علي عليه السلام نصفهم وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر ، وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحّة ذلك ، ودَع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما ، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة ومِصر ونحوهما .

»   أما الفصاحة فهو عليه السلام إمام الفصحاء وسيد البلغاء ، وعن كلامه قيل : دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة .
» وقال عبدالحميد بن يحيى ، حفظت سبعين خطبة من خطب الاصلع ففاضت ثم فاضت .
» وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيى الناس قال له : ويحك كيف يكون أعيى الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره ؟
ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجازى في الفصاحة ولا يُبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم يُدَوَّن لاحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر مِمّا دُوّنَ له ، وكَفاك في هذا الباب ما يقوله أبوعثمان الجاحظ في مدحه في كتاب "البيان والتبيين" وفي غيره من كتبه.

»   وأما سجاحة الاخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا و التبسم فهو المضروب به المثل فيه ، حتى عابه بذلك أعداؤه ، وقال عمرو بن العاص لأهل الشام : إنه ذو دعابة شديدة ، وقال علي عليه السلام في ذاك : عجبا لإبن النابغة يزعم لاهل الشام أن فيّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس ، وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر لقوله لما عزم على استخلافه : لله أبوك لولا دعابة فيك ، إلا أن عمر اقتصر عليها وعمرو زاد فيها ونسجها.
» قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد ، وكنا نهابه مهابة الاسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.
» وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة ، قال قيس : نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبسم إلى أصحابه ، وأراك تسر حسوا في ارتغاء رفعه ، وتعيبه بذلك ، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مَسّه الطوى ، تلك هيبة التقوى ، ليس كما يهابك طغام أهل الشام.
وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء والخشونة و الوعورة في الجانب الآخر ، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.

»   وأما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد ، وبدل الأبدال ، وإليه يُشدُّ الرِحَال ، وعِنده تنفضّ الأحلاس ، ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا .
» قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرصوصا ، فقدم فأكل ، فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت ، وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وبليف اخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس الغليظ فإذا وجد كُمّه طويلا قطعه بشفرة فلم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له ، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح ، فإن ترقى عن ذلك فببعض نبات الارض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الابل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول : لا تجعلوا قلوبكم مقابر الحيوان ، وكان مع ذلك أشد الناس قوّة وأعظمهم أيدا ، لم ينقص الجوع قوته ولا يخور الأقلال منته وهو الذي طلق الدنيا وكانت الاموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام و كان يفرقها ويمزقها ثم يقول :

هذا جناي وخياره فيه   إذ كل جان يده إلى فيه

»   وأما العبادة فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الاوراد وقيام النافلة ، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له قطع ما بين الصفين ليلة الهرير فيُصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه تمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده.
وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص ، وفهمت من أي قلبٍ خرجت وعلى أيّ لسانٍ جَرَت.
» وقيل لعلي بن الحسين عليهما السلام وكان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدك ؟ قال : عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله .

»   وأما قراءته القرآن والاشتغال به فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتفق الكل على أنّه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو أوّل من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنّه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن ، فهذا يدل على أنّه أول من جمع القرآن ، لأنّه لو كان مجموعاً في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ، وإذا رجعت إلى كتب القراءة وَجَدْتَ أئمة القراءة كلهم يرجعون إليه ، كأبي عمرو بن أبي العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما لانهم يرجعون إلى عبد الرحمن السلمي الفارسي، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه وعنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق .

»   وأما الرأي والتدبير فكان من أشد الناس رأياً وأصحّهم تدبيراً ، وهو الذي أشار إلى عمر لما عزم على أن يتوجّه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار ، وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث ، وإنّما قال أعداؤه لا رأي له لأنّه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه ، وقد قال عليه السلام : لولا التقى لكنت أدهى العرب ، وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه ، سواء كان مُطابقاً للشرع أو لم يكن ، ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لاجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنياوية إلى الانتظام أقرب ، ومن كان بخلاف ذلك يكون أحواله الدنياوية إلى الانتشار أقرب .

»   وأما السياسة فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات الله ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولّاه إياه ، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به ، وأحرق قوما بالنار ، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبدالله البجلي ، وقطع جماعة صلب آخرين.
» ومن جملة سياسته حروبه في أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان ، وفي أقل القليل منها مقنع ، فإنّ كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه.

»   فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم ، قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله والرئيس المقتفى أثره.

وما أقول في رجل يحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لاهل الملة ، وتصور ملكوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها حاملا سيفه مشمرا لحربه ، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها ، كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة وكان على سيف الارسلان وابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر.
وما أقول في رجل أحب كل أحد أن يتكثر به ، وود كل أحد يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه...
وما أقول في رجل أبوه أبوطالب سيد البطحاء ، وشيخ قريش ورئيس مكة ، قالوا : قل أن يسود فقير وساد أبوطالب وهو فقير لا مال له ، وكانت قريش تسميه الشيخ.
» وفي حديث عفيف الكندي : لما رأى النبي صلى الله عليه وآله يصلي في مبدء الدعوة ومعه غلام وامرأة قال: فقلت للعباس : أي شئ هذا ؟ قال : هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس ، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام وهو ابن أخي أيضا ، وهذه الإمرأة وهي زوجته قال : فقلت : فما الذي تقولونه أنتم ؟ قال : ننتظر ما يفعل الشيخ - قال : يعني أبا طالب - وهو الذي كفل الرسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا ، وحماه وحاطه كبيرا ، ومنعه من مشركي قريش ، ولقيَ لأجله عناءً عظيماً ، وقاسى بلاءً شديداً ، وصبر على نصره والقيام بأمره ، وجاء في الخبر أنه لما توفي أبوطالب أوحيَ إليه وقيل له : اخرج منها فقد مات ناصرك.

»   وله مع شرف هذه الابوة أن ابن عمه محمد صلى الله عليه وآله سيد الأولين والآخرين ، وأخاه جعفر ذوالجناحين الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : أشبهت خَلقي وخُلقي ، وزوجته سيدة نساء العالمين ، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة ، فآباؤه آباء رسول الله وأمهاته أمّهات رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مسوط بلحمه ودمه ، لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب ، بين الاخوين عبد الله وأبي طالب وأّمهما واحدة ، فكان منهما سيد الناس هذا الاول وهذا الثاني وهذا المنذر وهذا الهادي.

وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى وآمن بالله وعبده ، وكل من في الارض يعبد الحجر ويجحد الخالق ، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله صلى الله عليه وآله.
» ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه أول الناس اتّباعا لرسول الله وإيمانا به ، ولم يختلف في ذلك إلا الأقلّون ، وقد قال هو عليه السلام : أنا الصديق الاكبر وأنا الفاروق الاول ، أسلمت قبل إسلام الناس ، وصليت قبل صلاتهم ، ومن وقف على كتب أصحاب الاحاديث تحقق وعلمه واضحا ، وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري ، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب الاستيعاب.

ولأنّا إنّما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عَنَّت بالعرض لا بالقصد، وجَبَ أن يختصر ونقتصر، فلو اردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يُماثل حجم هذا بل يزيد عليه، وبالله التوفيق. 1

* * *

وختاماً أقول

إنّ الأدلة على أفضلية أمير المؤمنين (ع) أكثر من أن تُحصى، وأكبر من أن تُستقصى، غنيّة عن البيان، واضحة البرهان، لذوي الأذهان 2 ، وأنّها ليست المرّة الأولى التي يُنسب فيها إلى أمير المؤمنين (ع) مثل هذه الأقوال التي ذكرها الدكتور الحفني في مَعرض حديثه فقد نُسِبَ إليه الكثير غيرها ولسنا بصدد تفصيلها وتحصيلها ولا الدخول في هذا البحث الشائك والذي لا جدوى منه سوى التعب والعناء.

ويُلاحظ القارئ لأقوال هذا الكاتب بوضوح اعترافه بإمامة الفاضل على المفضول ويُبرز ذلك من خلال عَدم اعترافه بأفضلية الإمام (ع) لأنّ هذا الإعتراف سيدفعه قسراً إلى اعترافٍ آخر لا ينسجم مع عقيدته ولهذا حاول جاهداً دفع الحقائق بالأباطيل.

واعتبر أيضاً أنّ اصحاب هذه الفرقة قالوا بأفضلية علي (ع) على الصحابة ليَحوز بذلك الخلافة بعد النبي (ص وآله) تشكيك منه بأحقيّة خلافة أمير المؤمنين ع لرسول الله (ص وآله) أو كأنّ هؤلاء الثلاثة (أبو الأسود الدؤلي، ويحيى بن معمر، وسالم بن أبي حفصة) هم الذين ابتدعوا هذه الفكرة، ولذلك لا بد لنا من إيضاح ما يلي:
إنّ مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ليس بحاجة لمن يَختلق له الفضائل ليَستدل بها على خلافته للرسول الأكرم والنبي المعظّم (ص وآله) ففضائله كثيرة، ومناقبه شهيرة، رواها كِبار العلماء والمُحدّثين من ثقات الفريقين، واعترف بها نخبة الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، ودوّنوها في كتبهم تراثاً ثميناً للمسلمين، وأعلنها للأمة الرسول العربي الأمين (ص وآله) ، وإنّ الأدلة على أنّه الخليفة الشرعي بعد الرسول ص وآله أشهر من علم على نار وأوضح من الشمس في رابعة النهار، ولا بأس من ذكر جزء يسير يُغني عن الشيء الكثير:

» رواه أحمد بن حنبل في مسنده يرفعه إلى سلمان أنّه قال: يا رسول الله من وصيّك؟
فقال: يا سلمان من كان وصيُّ أخي موسى؟
قال: يوشع بن نون.
قال: ( فإنّ وصيِّ ووارثي ومن يقضي ديني ويُنجز وعدي علي بن أبي طالب عليه السلام ) .

» وروى ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب، في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴾ يرفعه إلى ابن عباس قال: كنت جالساً مع فتية من بني هاشم عند النبي (ص وآله) إذا انقضّ كوكب، فقال رسول الله ص وآله: ( من انقضّ هذا النجم في منزله فهو الوصي من بعدي ) .
فقام فتية من بني هاشم فنظروا فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل علي بن أبي طالب.
فقالوا: يا رسول الله قد غُويتَ في علي، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ إلى قوله: ﴿ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ﴾ من سورة النجم.

» وروى ابن المغازلي أيضاً عن عبد الله بن بريدة قال رسول الله ص وآله: ( لكل نبي وصي ووارث، وإنّ وصيّي ووارثي علي بن أبي طالب ) .

فهذا دليل على أنّ ظهور التسمية لعلي ع بأنّه الوصي كان في عهد رسول الله (ص وآله) وعلى لسانه، وهي في الوقت نفسه دليل على أنّه الخليفة من بعده.

»   ومن الأدلة أيضاً:
أمر الرسول (ص وآله) للأمة أن يُسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ولنزول آية الولاية فيه كما روى ذلك المفسرون، ولحديثيّ الغدير والمنزلة المتواترين، ولاستخلافه على المدينة ولم يعزله قبل موته ص وآله، ولأنه أفضل الأمّة بعد الرسول ص وآله ولعصمته كما دلّت آية التطهير، ولظهور المعاجز على يديه كما أورد أرباب السير، إلى ما هنالك من الدلائل الصريحة والمذكورة في المراجع المُعتبرة والمُعتمدة عند سائر العلماء، وسردها بجملتها يحتاج إلى مجلدات عديدة.

  وفي الختام نقول:
إنّ هؤلاء الأعلام الثلاثة الذين أتى على ذكرهم لم يبتدعوا هذه الفكرة من عِندياتهم بل استندوا في ذلك على الأخبار الصحيحة الواردة عن السيد الرسول ص وآله وليس الأمر موقوفاً عليهم فقط بل قال بذلك أجلاّء الصحابة والتابعين والعلماء والمُحدّثين، كما ذكرنا من قبل.
ولا وجود لفرقة دينية تُدعى "التفضيلية" كما أورد بلا إسناد ولا دليل، بل إنّ القائلين بأفضلية الإمام وأحقيته بالخلافة هم أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

  • 1 مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي.
  • 2 يُروى عن ابن حنبل أنّه قال:
    ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي رضي الله عنه – المناقب لابن الجوزي.
    وعنه أيضاً: من لم يثبت الإمامة لعلي فهو أضلّ من حمار... نِعمَ خليفة رضيه أصحاب رسول الله ص وصلّوا خلفه، وغزوا معه، وجاهدوا وحجّوا، وكانوا يُسمّونه أمير المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن له تُبَّع .
    وقال أيضاً (والحديث لابن حنبل) : أنّ الخلافة لم تزيّن علياً، بل علي زيّنها – المناقب لابن الجوزي...