الغلو والغلاة ورأيُ الخَصيبي في حادثة كربلاء

أُضيف بتاريخ الأحد, 31/10/2010 - 11:27

عرّف بعضهم الغلو بقوله: هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد. وهنا نسأل:

  • ما هو هذا الحد الذي من تجاوزه صنّف مغاليًا؟
  • أهو القول بأن عليًّا  هو أفضل الصحابة ؟
  • أو الإعتقاد بأنه الخليفة الشرعي للرسول الأكرم   ؟
  • أو الإيمان بعصمته وعصمة أبنائه الكليّة ؟
  • أو التصديق بأن الله أيّدهم بخوارق المعجزات ؟
  • أو التسليم اليقيني بكل ما ورد عنهم وصدر منهم ؟
  • فهل هذا هو الغلو الذي من قال به اعتبر متجاوزًا للحد خارجًا عن القصد ؟

فإنّ كان هو كما صرّح بذلك بعض المتعصبين والمُقَصِّرين، فإنّ الشيخ ومن قال بقوله من العلماء والفقهاء يُعَدّون من أكثر الناس غلوًّا.

ولكن هل نسي مُطلقو هذه الفِرْيَة بأنّ الأدلّة على صِحّة هذه المَقولات الاعتقادية أكثر من أن تُحصى، وهي مَبثوثة بكثرة مَلحوظة في كتب الفريقين رواها عشرات العلماء في مصنّفاتهم المعتمدة والموثوقة عند أجلّتهم.

أقول متيقّنًا بأنهم لم ينسوا ذلك، ولكنها الغايات التي تبرر الوسائل عندهم، حتى وإن كانت هذه الوسائل تنصبّ في تكفير أهل الايمان واليقين.

إنّ تجاوز الحد والخروج عن القصد ليس في قول ما هو صحيح و ثابت، بل هو كما اتفق عليه في تأليه الأئمة، أو تأليه غيرهم، وفي تصوري أنه لا يوجد من يقول بذلك لا من هنا ولا من هناك.

وعلى هذا الأساس الراسخ فان الاتهام بالغلو هو مرضٌ قديمٌ وداءٌ عضالٌ ابتُليت به الأمّة الاسلامية فأدّى إلى زيادة تنفير أبنائها من بعضهم البعض ممّا أعان عليها أخصامها الأَلدَّاء، وهذا المرضُ الخبيث له أسبابه المباشرة ومن جملتها:

  • اختلاف أبنائها في العقائد وانقسامهم إلى فرق ومذاهب.
  • اختلاف أبناء المذهب الواحد سببه تفاوت في العقول وتفاضل في الأذهان.

فحينما يختلف هذا مع ذاك في تفضيل شخص على آخر سينتج عن خلافهما طعن وتكفير يؤدي إلى افتراقهما وهذا الافتراق يؤدي إلى إختلاق الاتهامات المتبادلة. وفي يقيني أنهما لو تبصّرا في عاقبة فعلهما لما تجرّءا على فعل ما فعلا. وحينما يُنكر أحدهما ما أقرّ به صاحبه فسيصدر عن المُنكِر تكفيرٌ بحق المُقر، وعن المُقِر تضعيف بحق المنكر وهكذا إلى ما لا نهاية.

إذًا فالغلو كذبة قديمة لا أساس لوجودها والاتهام بها صورة ضعف وعجز المتهم الذي لا حجة له إلا التكفير لستر عجزه المكشوف.

وبعد هذا التقديم السليم، والتعريف اللطيف، والتحليل الجميل أقول بأن بعض العلماء عرّف فرقة الغلاة بالقول التالي: (هم الذين غلوا في حق النبي وآله حتى أخرجوهم عن حدود الخليقة) 1 .

وقد عدّهم الشهرستاني (المشكوك بنزاهته والمعروف بإفراطه في التعصب) بأنهم إحدى عشر صنفًا وذكر من جملتهم النُّصَيْرِيَّة، وذكر آراءهم وعقائدهم 2 .

ويرى بعض الفقهاء كالعلامة الشيخ جعفر السبحاني بأن ما ذكره الشهرستاني من الصنوف وما نُسِبَ إليهم من الآراء السخيفة غير ثابت جدًّا، وبرهن على صحة قوله بشواهد كثيرة إلى أن قال نقلاً عن أحد العلماء:

هذه ليست أول قارورة كسرت في التاريخ، بل لها نظائر وأمائل كثيرة، فكم من رجال صالحين شوّه التاريخ سمعتهم 3 وكم من أشخاص طالحين قد وزن لهم التاريخ بصاع كبير، وعلى أي تقدير فلا نجد لأكثر هذه الفرق بل جميعها مصداقًا في أديم الأرض. 4

وقال أيضًا :

فلا جدوى في البحث عن الغلاة على النحو الذي ذكره الشهرستاني وغيره (كالكشي والنوبختي) في كتابه فان الرواة الواردين في إسناد الروايات منزهون عن الغلو بهذا المعنى الذي يوجب الخروج عن التوحيد والإسلام ويُلحق الرجل بالكُفّار والمُشركين.

ثم أبان عن الفرقة الغالية بقوله:

إنّ الفرقة المعروفة بالغلو هي فرقة المفوضة غير أنه يجب تحقيق معناها حتى يتبيّن الصحيح من الزائف.

ثم أوضح معنى التفويض وفصل بين الصحيح والزائف إلى أن قال:

المراجع إلى كلمات القُدماء يجد أنهم يرمُون كثيرًا من الرُّواة بالغلو حسب ما أعتقد به في حق الأئمة، وإن لم يكن غلوًا في الواقع.

واستشهد بقول الوحيد البهبهاني في الفوائد الرجالية حيث يقول:

فاعلم أنّ الظاهر أنّ كثيرًا من القدماء لا سيما القُمِّيِّين منهم والغضائري كانوا يعتقدون للأئمة عليهم السلام منزلة خاصة من الرفعة والجلالة، ومرتبة معينة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوزون التعدي عنها، وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعًا وغُلُوًّا حسب معتقدهم، حتى أنهم جعلوا مثل (نفي السهو عنهم) غلوًّا. بل ربما جعلوا مُطلق التفويض إليهم، أو التفويض الذي اخْتُلف فيه، أو المُبالغة في مُعجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص، وإظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض (جعلوا كل ذلك) ارتفاعًا مورثًا للتهمة به، لا سيما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين.

وبالجملة الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصولية أيضًا، فربما كان شيء عند بعضهم فاسدًا، أو كفرًا، أو غلوًّا، أو تفويضًا، أو جبرًا، أو تشبيهًا، أو غير ذلك، وكان عند آخر مما يجب اعتقاده أو لا هذا ولا ذاك.

فيجب على العالم الباحث، التحقيق في كثير من النسب المرمي بها الأجلة، لما عرفت من أنه لم يكن في تلك الأزمنة ضابطة واحدة ليتميز الغالي عن غيره 5 .

ولا بد من التأمل في جرحهم بأمثال هذه الأمور ومن لحظ مواقع قدحهم في كثير من المشاهير كيونس بن عبد الرحمن، ومحمد بن سنان، والمفضل بن عمر وأمثالهم، عرف الوجه في ذلك.

وكفاك شاهدًا إخراج أحمد بن محمد بن عيسى، أحمد بن محمد بن خالد البرقي من قم، بل عن المجلسي الأول، أنه أخرج جماعة من قم، بل عن المحقق الشيخ محمد ابن صاحب المعالم، أن أهل قُم كانوا يُخرجون الرّاوي بمجرد توهم الريب فيه.

فإذا كانت هذه حالتهم وذا دَيْدَنُهم فكيف يُعوّل على جرحهم وقدحهم بمجرّده، بل لا بد من التروي والبحث عن سببه والحمل على الصحة مهما أمكن، كيف لا، ولو كان الاعتقاد بما ليس بضروري البطلان عن اجتهاد، موجبًا للقدح في الرجل، للزم القدح في كثير من علمائنا (الكلام للممقاني) المتقدمين، لأن كُلاً منهم نُسب إليه القول بما ظاهره مُستنكَر فاسد.

ومما يؤيد ذلك ما ذكره الوحيد البهبهاني في ترجمة أحمد بن محمد بن نوح السيرافي قال:

إنّه حكي في الخلاصة أنّ الشيخ كان يذهب إلى مذهب الوعيدية (وهم الذين يُكفّرون صاحب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار)، وهو وشيخه المُفيد إلى أن الله تعإلى لا يقدر على عين مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي والسيد المرتضى إلى مذهب البهشمية من أنّ إرادته عرض لا في محل، والشيخ الجليل إبراهيم بن نوبخت إلى جواز اللذة العقلية عليه سبحانه، وأن ماهيته معلومة كوجوده وأنّ ماهيته الموجود، والمخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة، والصدوق وشيخه ابن الوليد والطبرسي إلى جواز السهو على النبي، ومحمد بن عبدالله الأسدي إلى الجبر والتشبيه، وغير ذلك مما يطول تعداده، والحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزمه أحد يؤمن بالله، والذي ظهر لي من كلمات أصحابنا المتقدمين، وسيرة أساطين المحدثين أنّ المخالفة في غير الأصول الخمسة لا يوجب الفسق، الا أن يستلزم إنكار ضروري الدين كالتجسيم بالحقيقة لا بالتسمية، وكذا القول بالرؤية بالانطباع أو الانعكاس، وأما القول بها لا معها فلا، لأنه لا يبعد حملها على إرادة اليقين التام، والانكشاف العلمي، وأما تجويز السهو عليه وإدراك اللذة العقلية عليه تعإلى مع تفسيرها بإرادة الكمال من حيث أنه كمال فلا يوجب فسقاً.

ثم قال: ونسب ابن طاووس ونصير الدين المحقق الطوسي وابن فهد والشهيد الثاني وشيخنا البهائي وجدي العلامة وغيرهم من الأجلة إلى التصوف، وغير خفي أن ضرر التصوف إنما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول أو الوحدة في الوجود أو الاتحاد أو فساد الأعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير من المتصوفة في مقام الرياضة أو العبادة. و غير خفي على المطلعين على أحوال هؤلاء الأجلة من كتبهم وغيرهم أنهم منزهون من كلتا المَفسدتين قطعًا، ونسب جدي العالم الرباني والمقدس الصمداني مولانا محمد الصالح المازندراني وغيره من الأجلة إلى القول باشتراك اللفظ، وفيه أيضًا ما أشرنا اليه ونسب المحمدون الثلاثة والطبرسي إلى القول بتجويز السهو على النبي، ونسب ابن الوليد والصدوق أيضًا منكر السهو إلى الغلو.

وبالجملة أكثر الأجلة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا اليه، ومن هذا يظهر التأمل في ثبوت الغلو وفساد المذهب بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال.

ونحن بعدما قرأنا ذلك انتقلنا إلى ما ذكره العلامة الزمخشري في حق نفسه حيث يقول:

تعجبت من هذا الزمان وأهله***فما أحد من ألسن الناس يسلم

والذي تبيّن لنا من مراجعة هذه الكلم هو أنّ أكثر علماء الرجال، أو من كان ينقل عنه علماء الرجال لم يكن عندهم ضابطة خاصة لتضعيف الراوي من حيث العقيدة، بل كلما لم تنطبق عقيدة الراوي وعقيدته رماه بالغلو والضعف في العقيدة، وربما يكون نفس الرامي مُخطئًا في اعتقاده بحيث لو وقفنا على عقيدته لحكمنا بخطئه، أو وقف في كتاب الراوي على أخبار نقلها هو من غير اعتقاد بمضمونها فزعم الراوي أنّ المؤلف معتقد به، إلى غير ذلك مما يُورث سوء الظن، مثل اذا ادّعى بعض أهل المذاهب الفاسدة أنّ الراوي منهم وليس هو منهم.

فتلخّص أن تضعيف الراوي من جانب العقيدة لا يتم الا بثبوت أمرين:

  1. الأول : أن يُثبت أنّ النظرية مما توجب الفسق.
  2. الثاني : أن يُثبت أنّ الراوي كان مُعتقدًا بها.

وأنى لنا بإثبات الأمرين.

أما الأول ، فلوجود الخلاف في كثير من المسائل العقيدية حتى مثل سهو النبي في جانب التفريط أو نسبة التفويض في بعض معانيها في جانب الإفراط.
وأما الثاني ، فإنّ إثباته في غاية الإشكال، خصوصًا بالنظر إلى بعض الأعمال التي كان يقوم بها بعض الرواة في حق بعض، من الإخراج والتشديد بمجرد النقل عن الضعفاء وإن كان ثقة في نفسه، وما لم يثبت الأمران لا يعتني بهذه التضعيفات الراجعة إلى جانب العقيدة 6 .

فالتكفير لا يجوز إذًا في مُتفرعات الأصول وجزئيات كُلياتها، إلّا أن يكون الأمر المُقال من قِبل قائله مُزيلاً للأصل المُعتمد ومتناقضًا معه .

فالتوحيد أصلٌ بلا خلاف، وإنّ عدم اعتقاده كفرٌ محضٌ، والقولُ بالشريك يُضاده، وقائلُ ذلك مُشرك وراويه مشكوك بأمره ومَطعون به، فأمّا أن يكون معتقده فيُحكم بشركه وكفره، وأما لا فيُحكم بتخطئته لروايته ما يُخالف عقيدته.

وأما مبحث الصِّفات فلا يستوجب التكفير إلّا في حال تشبيه الخالق بالمخلوق، وايقاعه في حدود العجز، ونسبة ما لا يليق بذاته إليه، وما عدا ذلك فمتروك لأن تناوله يؤدي إلى الوقوع في مُلابسات عديدة وحالة فريدة تؤدي بنا إلى عدم وجود مؤمن بين المسلمين، ولا مسلمًا بين المخلوقين، وذلك لأن القائلين بالصفات على أقسام:

  • قسم يقول بعينيّتها.
  • وقسم يقول بغَيريَّتها.
  • وقسم يقول بأنها ليست عَيْنَ الذات وليست غيرها.

فالأسلم ترك هذه الأمور المتعلقة في بحث عدالة الراوي ما دام مؤمنًا بالله ورسوله واليوم الآخر ومُقرًّا بوَلاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين، ومُسَلِّمًا لهم ومُستسلمًا لأمرهم.

وكذلك فالنبوة أصلٌ بلا نزاع، ومن لم يعتقدها أو أنكر أصلاً من أصولها كالوحي، والعصمة... فليس بمسلم.

أما فيما يتعلق بالعصمة الكلية، أو الجزئية، أو نفي السهو عن النبي أو عدمه، فلا يستوجب التكفير والتفسيق، وإنما يستوجب تحديد اللفظ بمقتضى الأمر المتعلق به.

وكذلك فإنّ ضعف الراوي لا يستوجب القدح كما هو دأب الكثيرين، ونقله عن الضعيف لا يدل على ضعفه إلّا عند الضعفاء، فربما نقل رواية صحيحة عن ضعيف فهل يستوجب ذلك تضعيفه، أو نقل رواية مشبوهة لغاية ما ولكنه لا يعتقدها فهل يستحق التفسيق على ذلك، فيجب بحث الأسباب أولاً، ثم يأتي الحكم مُنَزَّهًا عن الأهواء والغايات ثانيًا.

وإنّ الميزان الصحيح في تنقيح الروايات وتصحيحها هو كتاب الله وسنة رسوله ونهج الأئمة المعصومين عليهم السلام، وليس محدودية عقول الرجال وأهواءهم لأن ذلك يؤدي إلى انكار الضروريات.

أما التقليد في توثيق الرجال وتضعيفهم فباطلٌ لأسباب 7 :

  • إنّ أكثر المُصنفين في علم الرجال ليسوا بأفضل من الذين تحدثوا عنهم، والمفضول عند ذوي العقول لا يُقيّم الفاضل بل العكس هو الصحيح.
  • إنّ بعضهم ارتكز على عقيدته في تقييم الرجل وهذا التقييم غير سليم وذلك تحسبًا من أن تكون عقيدة المُصنف مَعلولة فستكون النتيجة مَجهولة والمقيّم مظلومًا.
  • إنّ بعضهم لم يُشاهد الرجل الذي تحدث عنه بل اعتمد على السماع وهذا الاستدلال باطل بالبديهة.
  • إنّ بعضهم اعتمد على رواية الرجل فحكم عليه من خلال اتفاقها مع عقيدته أو عدمها.
  • إنّ أكثرهم نقل عمن كان قبله ومن كان قبله يندرج ضمن الأقسام المذكورة أعلاه.

فالتقليد المقبول والمعمول به هو تقليد أهل العصمة، ولكنه عسير إذ يقتضي التحقّق من صحّة الروايات الواردة بحق الأشخاص. فيقتضي إذًا الاجتهاد في هذا المجال بموجب ما عُرف عن الرجل المُستقصى عن حاله درايةً وروايةً، قولاً وفعلاً، وهذا أيضًا عسيرٌ لأنّ الاجتهاد يتطلب شروطًا عديدةً يصعُبُ على الكثيرين امتهانها واتقانها، فأسلم الطرق وأسهلها هو التسليم لله بقلب سليم وحُسن الظن بأهل الوَلاية وعدم التقحّم في المسالك العَويصة التي تُؤَدِّي إلى ما لا يُحمد عُقباه.


وختامًا لهذا البحث أقول:

هذه هي حالة الاتهامات بين علماء المذهب الواحد وفقهائه، أمّا من حيث اتهام علماء المذاهب لبعضها البعض فهو كما أوضحنا بأنه لمجرد قول الإمامي بأنّ عليًّا  أفضل الصحابة أو الاعتقاد بعصمته كان يُرمى بالغلو والمُروق عن الدين ويُتّهم بالزندقة والضلال المبين، وخصوصًا في العصر العباسي الذي فاق سابقه بطغيان حُكّامه، وتعصُّبِ فُقهائه، فتبيّن لنا أنّ الغُلُوَّ كما ذكره مُلصقوه لا أساس لوجوده، أو لوجود فرقة تقول به بل هو عبارة عن وَصْمَةٍ كانت تُلصَق بكل مُعارض لسياسة عصره وملوك زمانه، ولو سلّمنا جَدلاً بوجوده فهو غير القرمطة المعروفة تاريخيًا، وهاتين التهمتين لا تجتمعان في شخص واحد، والشيخ الخصيبي   من أبعد الناس عنهما لصفاء عقيدته الاسلامية، وصحة وَلايته العلوية، ومن يراجع الهداية الكبرى المُعتمدة والمُتقنة عند الثقاة يتَّضح له بأنّ هذا الشيخ الجليل مُتّبع غير مُبتدع، ولم ينطق بكلمة واحدة إلا من بعد التحقُّقِ بأنّها صادرة عن أئمته المعصومين  . وإنّ ما رواه فيها من الأخبار الصادقة فهو محض عقيدته بدليل أنّه ألّفها وهو مطمَئِنّ البال ومن دون حذر، وكان ذلك في عصر الدولة الحمدانية المعروف عن أمرائها تمسّكهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولاية أهل البيت  .

وبعد هذا البيان المؤيد بالدليل والبرهان أقول: أنّه من المُعيب والمُخجل اعتماد بعض الكتّاب بل أكثرهم على ما جاء في كتاب (تاريخ العلويين) لمحمد أمين غالب الطويل فيما يتعلق بالشيخ الخصيبي، لِعِلم أهل الانصاف ومعرفتهم بأنّ الطويل استقى معلوماته من ساداته الأتراك والفرنسيين الذين أمْلوا عليه هذا التاريخ العليل المليء بالأباطيل والذي لا يَمُتّ إلى الحقيقة بصِلة، ولا يُمكن الاعتماد عليه كمُستند تاريخي لمُغايرته للواقع، وهذه الحقيقة التي سنُبرهن عنها في كتاب آخر أكّدناها سابقًا باختصار لذوي الأفكار.

ومن التُّهم التي أُلصقت بحق الشيخ من قبل المُغرضين القول بأنّ له (رأيًا خاصًّا في حادثة كربلاء) مفادُها أنّ الإمام الحُسين   لم يُقتل على الحقيقة! بل رفعه الله إلى السماء كما فعل بعيسى بن مريم  ، ولا أدري من أين استقى معلوماته مُطلق هذه الفِرْيَة؟ ومن أوحى له بها، وكأنّه أراد أن يقول بأن الشيخ قد غاير عُلماء زمانه في مفهوم الإمامة.

وهنا لا بد لي من القول: بأنّ رأي الشيخ في مصرع الامام الحسين   وموقفه من حادثة كربلاء الأليمة في غاية الوضوح، ولا يختلف في ذلك مع رواة الحديث وأهل العلم من الفقهاء الإماميين، ومن أراد التوسع فليقرأ هذا الخبر ليتضح له من خلاله الأمر:

قال الحسين بن حمدان الخصيبي شرّف الله مقامه:

حدّثني أبو الحسين محمد بن علي الفارسي عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر  قال:

لما أراد الحسين بن علي   الخروج إلى الشآم بعثت اليه أم سلمة وهي التي كانت ربّته وكان هو أحبّ اليها من كل أحد وكانت أرأف الناس عليه، وكانت تُربة الحسين عندها في قارورة مختومة دفعها إليها رسول الله   وقال لها إذا خرج إبني إلى العراق فاجعلي هذه القارورة نصبَ عينيك، فاذا استحالت التربة في القارورة دمًا عبيطًا فاعلمي أنّ ابني الحسين قد قُتِل.

فقالت له: أَذَكَرَكَ رسول الله أن تخرج إلى العراق.

قال: ولم يا أمّ سلمة ؟

قالت: سمعتُ رسول الله   يقول: يُقتل ابني الحسين بالعراق، وعندي يا بُنَيّ تُربَتَكَ في قارورة مختومة دفعها إليّ النبي  .

فقال: يا أم سلمة إني مقتول لا محالة فأين أفِرُّ من القدر والقضاء المَحتوم والأمر الواجب من الله سبحانه وتعإلى.

قالت: واعجباه فأين تذهب وأنت مقتول ؟

قال: يا أمّ إني إن لم أذهب اليوم ذهبت غدًا، وان لم أذهب غدًا ذهبت بعد غدٍ وما من الموت مفرّ، والله يا أمّ إني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه والساعة التي أُحْمَلُ فيها، والحُفرة التي أُدفن فيها، وأعرف قاتلي ومحاربي والمجلب عليّ والسائق والقائد والمُحرّض ومن هو قاتلي ومن يُحرّضه ومن يُقتل معي من أهلي وشيعتي رجلاً رجلاً وأُحصيهم عددًا وأعرفهم بأعيانهم وأسمائهم وقبائلهم وعشائرهم كما أعرفك، وإن أحببتِ أرَيْتُك مصرعي ومكاني.

فقالت: فقد شِئْتُ.

فما زاد عليّ أن تكلم باسم الله فخضعت له الأرض حتى أراها مضجعه ومكانه ومكان أصحابه وأعطاها من تلك التربة التي كانت عندها ثم خرج الحسين    وقال لها: يا أمّ إني لمقتول يوم عاشوراء يوم السبت.

فكانت أم سلمة تعُدّ الأيام وتسأل عن يوم عاشوراء فلما كانت تلك الليلة صبحته قتل الحسين  فرأت في منامها أشعث مُغْبَرًّا باكيًا، وقال: دَفَنْتُ الحُسين وأصحابه الساعة.

فانتبهت أم سلمة وخرجت صارخةً بأعلى صوتها واجتمع اليها أهل المدينة فقالوا لها ما الذي دهاك؟

قالت: قُتِلَ الحُسين بن علي وأصحابه  . قالوا: أضغاث أحلام.

فقالت: مكانكم، فإنّ عندي تُربة الحُسين، فأخرجتْ إليهم القارورة، فإذا هي دم عبيط، فحسبوا الأيام فإذا الحُسين قُتِلَ في ذلك اليوم.

( الهداية الكبرى - صفحة/203/204/)

فلو تبصّر مُنصف في هذا الخبر الصحيح المَروي في عِدّة مراجع 8 لتبيّن له رأي الخصيبي   في حادثة كربلاء، ولاتّضح له أيضًا بأنّه لا يختلف في ذلك مع بقية العلماء.

وأُلفتُ نظر القارىء الكريم إلى أنّ كلمة (القتل) وردت في هذا الخبر إحدى عشر مرة، ومن أراد المزيد فعليه بالهداية ليستفيد ويفيد ويرغم كل أفّاك عنيد، وجاهل بليد.

  • 1 كنا نتمنى على هذا العالم أن يبين لنا ما هي حدود الخليقة حتى نعلم متى يخرج القائل الأئمة عنها بقوله فيهم حسب معتقده القائم على ما تحققه من النصوص الواردة عنهم من خلال الأمناء ؟
    فهل القول بأنهم فوق المخلوقين ودون الخالق، أو أنهم يفعلون ما يعجز عنه غيرهم، أو أنّ الله اختصهم بخصائص لم يختص بها غيرهم غلوّاً ؟
    أم أنّ مراده بـ (حدود الخليقة) إخراجهم عن الحدوث والامكان؟ فهذه الناحية لا يقرّها علوي.
    أما الناحية الأولى المُنصبّة على الاعتراف بخصائصهم وفضائلهم فهي عقيدة الشيخ ومُقلديه القائمة على قواعد ثابتة والمُنطلقة من أُسس راسخة لا تتغير وهي القول أنهم عباد مكرمون.
  • 2 لا يُلام الشهرستاني على كلامه لأن تعصبه هو الذي يُملي عليه أحكامه، فلو أن النُصيريين قالوا بمقالته لصنّفهم من أعلام الشريعة وسُدنتها، ولن يكونوا كذلك لا عنده ولا عند غيره لأنهم لن يُغيّروا مقالتهم العلوية بمقالة ناصبية.
  • 3 أمثال شيخنا الأجل الذي نحن بصدد الحديث عنه والتبرك بذكره.
  • 4 هذا ما بينّاه وبرهنّاه في مواضع عدة من كتابنا(المسلمون العلويون بين مفتريات الأقلام وجور الحكام) وأكّدنا على أنّ أكثر الفرق المذكورة في كتب الفرق والنحل لا أساس لوجودها الّا في خيال أصحابها.
  • 5 كليات في علم الرجال.
  • 6 كليات في علم الرجال.
  • 7 باستثناء الثقات الذين لا يشك في عقيدتهم وعدالتهم.
  • 8 روى هذا الخبر العلامة محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار نقل عن القطب الراوندي، ورواه عن المجلسي المحقق البهبهاني في الدمعة الساكبة، ورواه عن الشيخ الخصيبي صاحب صحيفة الأبرار وغيره.